وقرأ الكسائي بالإفراد مع كسرها، وبهذه القراءة قرأ يحيى بن وثاب، والأعمش، ووجه الإفراد : أنه مصدر يشمل القليل، والكثير، أو اسم مكان، وأريد به معنى : الجمع، وهذه المساكن التي كانت لهم هي : التي يقال لها الآن : مأرب، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال، ومعنى قوله :﴿ ءايَةً ﴾ أي : علامة دالة على كمال قدرة الله، وبديع صنعه، ثم بين هذه الآية، فقال :﴿ جَنَّتَانِ ﴾، وارتفاعهما على البدل من آية قاله الفراء، أو على أنهما خبر مبتدأ محذوف قاله الزجاج، أو على أنهما مبتدأ، وخبره :﴿ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ﴾، واختار هذا الوجه ابن عطية، وفيه أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة من غير مسوّغ، وقرأ ابن أبي عبلة :"جنتين" بالنصب على أنهما خبر ثان، واسمها : آية، وهاتان الجنتان كانتا عن يمين واديهم وشماله، قد أحاطتا به من جهتيه، وكانت مساكنهم في الوادي، والآية هي : الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما، وعلى رأسها المكتل، فيمتلىء من أنواع الفواكه التي تتساقط من غير أن تمسها بيدها.
وقال عبد الرحمن بن زيد : إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة، ولا ذباباً، ولا برغوثاً، ولا قملة، ولا عقرباً، ولا حية، ولا غير ذلك من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل ماتت عند رؤيتهم لبيوتهم.
قال القشيري : ولم يرد جنتين اثنتين، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة في كل جهة بساتين كثيرة ﴿ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ ﴾ أي : قيل لهم ذلك، ولم يكن ثم أمر، ولكن المراد تمكينهم من تلك النعم.
وقيل : إنها قالت لهم الملائكة، والمراد بالرزق هو : ثمار الجنتين.
وقيل : إنهم خوطبوا بذلك على لسان نبيهم ﴿ واشكروا لَهُ ﴾ على ما رزقكم من هذه النعم، واعملوا بطاعته، واجتنبوا معاصيه، وجملة :﴿ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ مستأنفة لبيان موجب الشكر.