ودرج المفسرون على أنهم دَعوا الله بذلك، ويعكر عليه أنهم لم يكونوا مقرِّين بالله فيما يظهر فإن درجنا على أنهم عرفوا الله ودعوه بهذا الدعاء لأنهم لم يقدُروا نعمته العظيمة قَدرها فسألوا الله أن تزول تلك القرى العامرة ليسيروا في الفيافي ويحملوا الأزواد من الميرة والشراب.
ثم يحتمل أن يكون أصحاب هذه المقالة ممن كانوا أدركوا حالة تباعد الأسفار في بلادهم قبل أن تؤول إلى تلك الحضارة، أو ممن كانوا يسمعون أحوال الأسفار الماضية في بلادهم أو أسفار الأمم البادية فتروق لهم تلك الأحوال، وهذا من كفر النعمة الناشىء عن فساد الذوق في إدراك المنافع وأضدادها.
والمباعدة بصيغة المفاعلة القائمة مقام همزة التعدية والتضعيف.
فالمعنى : ربنا أبعد بين أسفارنا.
وقال النبي ﷺ " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعَدْتَ بين المشرق والمغرب ".
وقرأه الجمهور ﴿ باعِد ﴾.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿ بَعِّد ﴾ بفتح الباء وتشديد العين.
وقرأه يعقوب وحده ﴿ ربُّنا ﴾ بالرفع و ﴿ باعَدَ ﴾ بفتح العين وفتح الدال بصيغة الماضي على أن الجملة خبر المبتدأ.
والمعنى : أنهم تذمروا من ذلك العمران واستقلّوه وطلبوا أن تزداد البلاد قرباً وذلك من بطر النعمة وطلب ما يتعذر حينئذٍ.
والتركيب يعطي معنى "اجعل البعد بين أسفارنا".
ولما كانت ﴿ بين ﴾ تقتضي أشياء تعين أن المعنى : باعد بين السفَر والسفر من أسفارنا.
ومعنى ذلك إبعاد المراحل لأن كل مرحلة تعتبر سفراً، أي باعد بين مراحل أسفارنا.
ومعنى ﴿ فجعلناهم أحاديث ﴾ جعلنا أولئك الذين كانوا في الجنات وفي بحبوحة العيش أحاديث، أي لم يبق منهم أحد فصار وجودهم في الأخبار والقصص وأبادهم الله حين تفرقوا بعد سيل العرم فكان ذلك مسرعاً فيهم بالفناء بالتغرب في الأرض والفاقة وتسلط العوادي عليهم في الطرقات كما ستعلمه.