واعلم أن هذه الآية تصرح بأن الضلال والهدى من اللّه وحده لا دخل للعبد فيهما، لأنه مقدر عليه في أصل الخلقة يؤيده قوله صلى اللّه عليه وسلم حينما قيل له ما فائدة العمل يا رسول اللّه ؟ قال اعملوا فكل مسير لما خلق له.
راجع تفسير أول سورة القلم المارة، وتفسير الآية ١٧ من سورة الأنعام في ج ٢، والآية ٤١ من سورة الرعد في ج ٣، وهذا ما يحله أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة القائلين بخلافه، إذ لا دخل للاختيار فيما اختاره اللّه، تدبر.
ولهذا البحث تفصيل في الآيتين ٧٧ و٧٨ من سورة النساء في ج ٣ فراجعه، أما المصرّون على ضلالهم فهم هالكون لا محالة "فَلا تَذْهَبْ" بفتح التاء والهاء، وقريء بضم التاء وكسر الهاء، ونصب نفسك على المفعولية وعلى الأول رفعها على الفاعلية تدبر "نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ" فتكثر غمك على كفرهم وإهلاكهم يا سيد الرسل، دعهم فإنهم خلقوا أشرارا لعدم انتفاعهم بما وهبوا من العقل الذي أعطوه ليميّزوا فيه الخبيث من الطيب، ويخلصوا أنفسهم من ذلك ولهذا البحث صلة في الآية ١٢ من سورة الشعراء الآتية، وكلمة حسرات حال من نفس محمد صلى اللّه عليه وسلم إشارة إلى أنها كأنها
صارت كلها حسرات لفرط تحسره عليهم وعليه قول جرير :
شقّ الهواجر لحمهن مع السرى حتى ذهبن كلاكلا وصدورا
الكلكل ما بين الترقوتين أو باطن الزور وهو من المحزم إلى ما يمس الأرض من الحيوان إذا ربض أو من الصدر، وعليه يكون العطف بيان والهواجر جمع هجر وهو نصف النهار عند الزوال.
والمعنى أن مشي الإبل في ذلك الوقت لم يبق منها إلا كلاكلها وصدورها، وهذا ما ذهب إليه سيبويه في البيت، وقال المبرد إن الكلاكل والصدور تمييز محول عن الفاعل، أي حتى ذهب كلاكلها وصدورها وعليه قوله :
فعلى إثرهم تساقط نفسي حسرات وذكرهم لي مقام