وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْبَيَانِ مِمَّا امْتَازَ بِهِ الْقُرْآنُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ، فَإِنَّكَ لَتَرَى فِيهِ فُنُونًا مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ وَالِاحْتِرَاسِ قَدْ جَاءَتْ فِي خِلَالِ الْقَصَصِ وَسِيَاقِ الْأَحْكَامِ، تَقْرَأُ الْآيَةَ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ عِظَةٍ مِنَ الْمَوَاعِظِ، أَوْ وَاقِعَةٍ تَارِيخِيَّةٍ فِيهَا عِبْرَةٌ مِنَ الْعِبَرِ، فَتَرَاهَا مُسْتَقِلَّةً بِالْبَيَانِ، وَلَكِنَّهَا بِاتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا قَدْ أَزَالَتْ وَهْمًا أَوْ تَمَّمَتْ حُكْمًا، وَكَانَ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَقْتَبِسُوا هَذِهِ الضُّرُوبَ مِنَ الْبَيَانِ، وَيَتَوَسَّعُوا بِهَا فِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ أَطْلَقَ لَهُمُ اللُّغَةَ مِنْ عِقَالِهَا، وَعَلَّمَهُمْ مِنَ الْأَسَالِيبِ الرَّفِيعَةِ مَا كَانَتْ تَسْتَحْلِيهِ أَذْوَاقُهُمْ، وَتَنْفَعِلُ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَتَهْتَزُّ لَهُ نُفُوسُهُمْ، وَتَتَحَرَّكُ بِهِ أَرْيَحِيَّتُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُوَفَّقُوا لِاقْتِبَاسِ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ
الْجَدِيدَةِ، عَلَى أَنَّ مَلَكَتَهُمْ فِي حُسْنِ الْبَيَانِ، قَدِ ارْتَفَعَتْ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : وَسَنُعْطِي هَذَا الْمَوْضُوعَ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ فِي مَوْضِعٍ تَكُونُ مُنَاسَبَتُهُ أَقْوَى مِنْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ.