لقد نفخ الله من روحه في هذا الكائن البشري، لأن إرادته اقتضت أن يكون خليفة في الأرض ؛ وأن يتسلم مقاليد هذا الكوكب في الحدود التي قدرها له. حدود العمارة ومقتضياتها من قوى وطاقات.
لقد أودعه القدرة على الارتقاء في المعرفة. ومن يومها وهو يرتقي كلما اتصل بمصدر تلك النفخة، واستمد من هذا المصدر في استقامة. فأما حين ينحرف عن ذلك المصدر العلوي فإن تيارات المعرفة في كيانه وفي حياته لا تتناسق، ولا تتجه الاتجاه المتكامل المتناسق المتجه إلى الأمام ؛ وتصبح هذه التيارات المتعارضة خطراً على سلامة اتجاهه. إن لم تقده إلى نكسة في خصائصه الإنسانية، تهبط به في سلم الارتقاء الحقيقي. ولو تضخمت علومه وتجاربه في جانب من جوانب الحياة.
وما كان لهذا الكائن الصغير الحجم، المحدود القوة، القصير الأجل، المحدود المعرفة.. ما كان له أن ينال شيئاً من هذه الكرامة لولا تلك اللطيفة الربانية الكريمة.. وإلا فمن هو؟ إنه ذلك الخلق الصغير الضئيل الهزيل الذي يحيا على هذا الكوكب الأرضي مع ملايين الأنواع والأجناس من الأحياء. وما الكوكب الأرضي إلا تابع صغير من توابع أحد النجوم. ومن هذه النجوم ملايين الملايين في ذلك الفضاء الذي لا يدري إلا الله مداه.
. فماذا يبلغ هذا الإنسان لتسجد له ملائكة الرحمن ؛ إلا بهذا السر اللطيف العظيم؟ إنه بهذا السر كريم كريم. فإذا تخلى عنه أو انفصم منه ارتد إلى أصله الزهيد.. من طين!
ولقد استجاب الملائكة لأمر ربهم كما هي فطرتهم :
﴿ فسجد الملائكة كلهم أجمعون ﴾..
كيف؟ وأين؟ ومتى؟ كل أولئك غيب من غيب الله. ومعرفته لا تزيد في مغزى القصة شيئاً. هذا المغزى الذي يبرز في تقدير قيمة هذا الإنسان المخلوق من الطين ؛ بعدما ارتفع عن أصله بتلك النفخة من روح الله العظيم.
سجد الملائكة امتثالاً لأمر الله. وشعوراً بحكمته فيما يراه.
﴿ إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين ﴾..