تعيش إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء، والماء ينزل من السماء، قال تعالى (وَأَنْزَلَ) أي أحدثها وأنشأها بأسباب نازلة من السماء كالأمطار والثلوج وأشعة الكواكب الناشئ عنها العشب الذي تقتات به الحيوانات، وهذا على حد قوله تعالى (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) الآية ٢٦ من الأعراف في ج ١، لأن اللباس نفسه لم ينزل من السماء وإنما أنزل الماء فأنبت القطن وغيره من كل ما ينسج والنبات الذي غذى متنه الحيوان الذي يحصل منه الصوف والشعر والوبر وغيره وأنعش دود القز وشبهه الذي يحصل منه الحرير وغيره فاتخذت الألبسة منها، وقال بعضهم معنى (أَنْزَلَ) قضى وحكم وقسم، وأراد بأن قضاء اللّه تعالى وقسمه يوصف بالنزول من السماء لأنهما مدونان باللوح المحفوظ وكل ما يقع في الكون فهو نازل مما هو مكتوب فيه، وهو كما ترى "ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ" تقدم بيانها في الآية ١٤٣ من سورة الأنعام المارة "يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ" أنتم وأنعامكم وغلب في الخطاب من يعقل على من لا يعقل لشرفه عليه.
واعلم أن مخلوقات اللّه تعالى ما يكونه تكوينا فيكون بنفسه من غير البطن وهذا داخل في لفظ الخلق ويكون
خلقه تدريجا حتى يكمل فيدخل في قوله تعالى خلقا من بعد خلق أما الإنسان وقسم من الحيوان فيكون "خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ" في الرحم المشتمل عليه البطن من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى لحم وعظم "فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ" ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وهي الجلدة الرقيقة التي تشتمل على الجنين "ذلِكُمُ" أيها الناس الذي يفعل هذه الأشياء وغيرها مما لا يطيق على جزء بعضه أعظم البشر ولو كان بعضه لبعض ظهيرا هو "اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ" كله وحده "لا إِلهَ إِلَّا هُوَ" الذي لا يستحق العبادة غيره فهو المعبود الحق "فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ٦" أي كيف تعدلون عن الحق إلى الباطل بعد أن اتضح لكم.