ثم قال تعالى :﴿وأنيبوا إلى ربكم﴾ قال صاحب "الكشاف" أي وتوبوا إليه وأسلموا له أي وأخصلوا له العمل، وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه، وأقول هذا الكلام ضعيف جداً لأن عندنا التوبة عن المعاصي واجبة فلم يلزم من ورود الأمر بها طعن في الوعد بالمغفرة، فإن قالوا لو كان الوعد بالمغفرة حاصلاً قطعاً لما احتيج إلى التوبة، لأن التوبة إنما تراد لإسقاط العقاب، فإذا سقط العقاب بعفو الله عنه فلا حاجة إلى التوبة، فنقول هذا ضعيف لأن مذهبنا أنه تعالى وإن كان يغفر الذنوب قطعاً ويعفو عنها قطعاً إلا أن هذا العفو والغفران يقع على وجهين تارة يقع ابتداء وتارة يعذب مدة في النار ثم يخرجه من النار ويعفو عنه، ففائدة التوبة إزالة هذا العقاب، فثبت أن الذي قاله صاحب "الكشاف" ضعيف ولا فائدة فيه.
ثم قال :﴿واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ﴾ واعلم أنه تعالى لما وعد بالمغفرة أمر بعد هذا الوعد بأشياء فالأول : أمر بالإنابة وهو قوله تعالى :﴿وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ﴾ والثاني : أمر بمتابعة الأحسن، وفي المراد بهذا الأحسن وجوه الأول : أنه القرآن ومعناه واتبعوا القرآن والدليل عليه قوله تعالى :﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كتابا ﴾
[ الزمر : ٢٣ ] الثاني : قال الحسن معناه، والتزموا طاعة الله واجتنبوا معصية الله، فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه، ذكر القبيح ليجتنب عنه، والأدون لئلا يرغب فيه، والأحسن ليتقوى به ويتبع الثالث : المراد بالأحسن الناسخ دون المنسوخ لأن الناسخ أحسن من المنسوخ، لقوله تعالى :﴿مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [ البقرة : ١٠٦ ] ولأن الله تعالى لما نسخ حكماً وأثبت حكماً آخر كان اعتمادنا على المنسوخ.