وهذا قول حق قد أنطقهم اللّه به ليحفظ اللّه موسى من القتل تنفيذا لوعده بذلك المار في الآية ٤٥ من سورة طه والآية ٢٥ من سورة القصص المارتين في ج ١، وقد نصحوا ملكهم بهذا، وهكذا الوزراء الذين يحرصون على سمعة ملكهم يشيرون عليه بكل ما يحفظ سمعته من الشوائب.
على أن فرعون لا يقدر على قتله لو وافقوه عليه، لأن اللّه تعالى حافظه ومنجز وعده له بإهلاك فرعون واستخلاص قوم بني إسرائيل منه، والخبيث فرعون يعرف يقينا بدهائه وذكائه أن موسى نبي مرسل من اللّه وأنه لا يستطيع إيقاع أي شيء به، وأنه سيهدم ملكه، ولو هم بقتله لعاجله اللّه بالهلاك، قبل أن يمسه اللّه بسوء.
ولذلك لم يجرؤ عليه، وإلا فهو السفّاك للدماء بأقل شيء، وإنما كان يهدد تهديدا رغبة بامتداد أجله ويموه على قومه بما يقول وليظهر أنه قادر على قتله وقال لهم بما يستعجلهم لموافقته "إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ" السوي الذي أنتم عليه ويغير سلطانكم ويستذلكم فيتفوق عليكم "أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ٢٦" الهيجان بسبب ما يدعو إليه فيكثر القتل وتتعطل معايش الناس ومصالح الدولة، ولهذا أريد أن توافقوني على قتله، قاتله اللّه على هذا التمويه، إذ ما هو عليه ليس بدين يرتضى حتى يخاف على تبديله، وهل على وجه الأرض أفسد منه في زمانه حتى يخاف الفساد، ولكن حب الرئاسة حبذّ له بيع الباقية بالفانية، وحمله على ذلك.
ولما سمع موسى قوله ورأى ما هو عازم عليه قال ما أخبر اللّه عنه بقوله عز قوله "وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ ٢٧" مخاطبا قومه عليه السلام بالتجائه إلى ربه مما توعده به فرعون، كما أن فرعون خاطب قومه بما أراده فيه محتجا بما ذكره من الترهات، وإنما قال (لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) لأن فرعون وقومه لا يعتقدون وحدانية اللّه، فجاهرهم بذلك.