يوجب التألم والثاني : أن الإحساس بالأشياء إنما يمكن بإيصال الأرواح الجسمانية إلى ظاهر الحس، ثم إن تلك الأرواح تتحلل بسبب كثرة الحركات فتضعف الحواس والإحساسات، وإذا نام الإنسان عادت الأرواح الحساسة في باطن البدن وركزت وقويت وتخلصت عن الإعياء، وأيضاً الليل بارد رطب فبرودته ورطوبته يتداركان ما حصل في النهار من الحر والجفاف بسبب ما حدث من كثرة الحركات، فهذه هي المنافع المعلومة من قوله تعالى :﴿الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ وأما قوله ﴿والنهار مُبْصِراً﴾ فاعلم أن الإنسان مدني بالطبع، ومعناه أنه ما لم يحصل مدينة تامة لم تنتظم مهمات الإنسان في مأكوله ومشروبه وملبسه ومنكحه، وتلك المهمات لا تحصل إلا بأعمال كثيرة، وتلك الأعمال تصرفات في أمور، وهذه التصرفات لا تكمل إلا بالضوء والنور حتى يميز الإنسان بسبب ذلك النور بين ما يوافقه وبين ما لا يوافقه، فهذا هو الحكمة في قوله ﴿والنهار مُبْصِراً﴾ فإن قيل كان الواجب بحسب رعاية النظم أن يقال هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه، أو فجعل لكم الليل ساكناً ولكنه لم يقل كذلك بل قال في الليل لتسكنوا فيه، وقال في النهار مبصراً فما الفائدة فيه ؟ وأيضاً فما الحكمة في تقديم ذكر الليل على ذكر النهار مع أن النهار أشرف من الليل ؟ قلنا : أما الجواب عن الأول : فهو أن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عدمية فهو غير مقصود بالذات، أما اليقظة فأمور وجودية، وهي مقصودة بالذات، وقد بيّن الشيخ عبد القاهر النحوي في "دلائل الإعجاز" أن دلالة صيغة الاسم على التمام والكمال أقوى من دلالة صيغة الفعل عليهما، فهذا هو السبب في هذا الفرق، والله أعلم، وأما الجواب عن الثاني : فهو أن الظلمة طبيعة عدمية والنور طبيعة وجودية والعدم في المحدثات مقدم على الوجود، ولهذا السبب قال في أول سورة الأنعام