فصل
قال الفخر :
واعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتفسير عن الدنيا وتحقير شأنها، لأن الذي يمنع من قبول الدليل إنما هو الرغبة في الدنيا بسبب الرياسة وطلب الجاه، فإذا صغرت الدنيا في عين الرجل لم يلتفت إليها، فحينئذ ينتفع بذكر الدلائل، فقال :﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَىْء فمتاع الحياة الدنيا﴾ وسماه متاعاً تنبيهاً على قلته وحقارته، ولأن الحس شاهد بأن كل ما يتعلق بالدنيا فإنه يكون سريع الانقراض والانقضاء.
ثم قال تعالى :﴿وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى﴾ والمعنى أن مطالب الدنيا خسيسة منقرضة، ونبه على خساستها بتسميتها بالممتاع، ونبّه على انقراضها بأن جعلها من الدنيا، وأما الآخرة فإنها خير وأبقى، وصريح العقل يقتضي ترجيح الخير الباقي على الخسيس الفاني، ثم بيّن أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفاً بصفات :
الصفة الأولى : أن يكون من المؤمنين بدليل قوله تعالى :﴿الذين آمَنُوا ﴾.
الصفة الثانية : أن يكون من المتوكلين على فضل الله، بدليل قوله تعالى :﴿وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ فأما من زعم أن الطاعة توجب الثواب، فهو متكل على عمل نفسه لا على الله، فلا يدخل تحت الآية.
الصفة الثالثة : أن يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش، عن ابن عباس : كبير الإثم، هو الشرك، نقله صاحب "الكشاف" : وهو عندي بعيد، لأن شرط الإيمان مذكور أولاً وهو يغني عن عدم الشرك، وقيل المراد بكبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات، وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية، وبقوله ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ ما يتعلق بالقوة الغضبية، وإنما خص الغضب بلفظ الغفران، لأن الغضب على طبع النار، واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة، فلهذا السبب خصّه بهذا اللفظ، والله أعلم.