وفي صحيح مسلم حديثُ أبي اليَسَر الطويل وفيه أنه قال لغريمه : أُخرج إليّ، فقد علمت أين أنت ؛ فخرج ؛ فقال : ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال : أنا والله أحدّثك ثم لا أكذبك، خشيت والله أن أحدّثك فأكذبك، وأن أعِدك فأخلِفك، وكنتَ صاحب رسول الله ﷺ، وكنتُ والله مُعْسِراً.
قال قلت : آللّهِ؟ قال اللّهِ ؛ قال : فأتى بصحيفة فمحاها فقال : إن وجدتَ قضاءً فاقض، وإلا فأنت في حِلّ...
وذكر الحديث.
قال ابن العربي : وهذا في الحي الذي يرجى له الأداء لسلامة الذمة ورجاء التَّمَحُّل، فكيف بالميت الذي لا محاللة له ولا ذِمّة معه.
العاشرة قال بعض العلماء : إن مَن ظُلم وأخِذ له مال فإنما له ثواب ما احتبس عنه إلى موته، ثم يرجع الثواب إلى ورثته، ثم كذلك إلى آخرهم ؛ لأن المال يصير بعده للوارث.
قال أبو جعفر الداودي المالكي : هذا صحيح في النظر ؛ وعلى هذا القول إن مات الظالم قبل مَن ظلمه ولم يترك شيئاً أو ترك ما لم يعلم وارثه فيه بظلم لم تنتقل تباعة المظلوم إلى ورثة الظالم ؛ لأنه لم يبقَ للظالم ما يستوجبه ورثة المظلوم.
الحادية عشرة قوله تعالى :﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ ﴾ أي صبر على الأذى و "غفر" أي ترك الانتصار لوجه الله تعالى ؛ وهذا فيمن ظلمه مسلم.
ويحكى أن رجلاً سبّ رجلاً في مجلس الحسن رحمه الله فكان المسبوب يكظِم ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية ؛ فقال الحسن : عقلها والله! وفهمها إذ ضيّعها الجاهلون.
وبالجملة العفو مندوب إليه، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال فيرجع ترك العفو مندوباً إليه كما تقدّم ؛ وذلك إذا احتيج إلى كفّ زيادة البغي وقطع مادّة الأذى، وعن النبي ﷺ ما يدل عليه، وهو " أن زينب أسمعت عائشة رضي الله عنهما بحضرته فكان ينهاها فلا تنتهي، فقال لعائشة :"دونِك فانتصري" " خرجه مسلم في صحيحه بمعناه.