الثاني : أن هذا الملك الواسع لذلك العزيز الحكيم جل جلاله الذي من شأنه أن يخلق ما يشاء فأنى يجوز أن يكون تصرفه إلا على وجه لا يتصور أكمل منه ولا أوفق لمقتضى الحكمة والصواب، وعند ذلك لا يبقى إلا التسليم والشغل بتعظيم المنعم المبلي عن الكفران والإعجاب، وناسب هذا المساق أن يدل في البيان من أول الأمر على أنه تعالى فعل لمحض مشيئته سبحانه لا مدخل لمشيئة العبد فيه فلذا قدمت الإناث وأخرت الذكور كأنه قيل يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء من الأناسي ما لا يهواه ويهب لمن يشاء منهم ما يهواه فقد كانت العرب تعد الإناث بلاء ﴿ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالانثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [ النحل : ٥٨ ] ولو قدم المؤخر لاختل النظم، وليس التقديم لمجرد رعاية مناسبة القرب من البلاء ليعارض بأن الآية السابقة ذكرت الرحمة فيها مقدمة عليه فناسب ذلك تقديم الذكور على الإناث، وفي تعريف الذكور مع ما فيه من الاستدراك لقضية التأخير التنبيه على أنه المعروف الحاضر في قلوبهم أول كل خاطر وأنه الذي عقدوا عليه مناهم، ولما قضى الوطر من هذا الأسلوب قيل :﴿ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ﴾ أي الأولاد ﴿ ذُكْرَاناً وإناثا ﴾ أي يخلق ما يهبهم زوجاً لأن التزويج جعل الشيء زوجاً فذكراناً وأناثاً حال من الضمير، والواو قيل للمعية لأن حقه التأخير عن القسمين سياقاً ووجوداً فلا تتأتى المقارنة إلا بذلك، وقيل ذلك لأن المراد يهب لمن يشاء ما لا يهواه ويهب لمن يشاء ما يهواه أو يهب الأمرين معالاً أنه سبحانه يجعل من كل من الجنسين الذكور والإناث على حياله زوجاً ولولا ذلك لتوهم ما ذكر فتأمله، ولتركبه منهما لم يكرر فيه حديث المشيئة، وقدم المقدم على ما هو عليه في الأصل ولم يعرف إذ لا وجه له، ثم قيل :﴿ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً ﴾ أي لا يولد له فقيد بالمشيئة لأنه قسم آخر، وكأنه جيء بأو في ﴿ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ﴾ دون الواو كما في


الصفحة التالية
Icon