ولكن الله لم يسُدَّ على النوع منافذ الكمال فخلقه خلقاً وسطاً بين المَلكِيَّة والبهيمية إذ ركبه من المادة وأودع فيه الروح ولم يُخَلِّه عن الإرشاد بواسطة وسطاء وتعاقبهم في العصور وتنَاقُل إرشادهم بين الأجيال، فإن اتبع إرشادهم التحق بأخلاق الملائكة حتى يبلغ المقامات التي أقامته في مقام الموازنة بين بعض أفراده وبين الملائكة في التفاضل.
وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى :﴿ قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدوّ فإمَّا يأتينَّكم منّي هُدى فمن اتبع هداي فلا يَضل ولا يشقى ومَن أعرَض عن ذكري فإنّ له مَعيشةً ضَنْكاً ونَحْشُرُه يوم القيامة أعمى ﴾ [ طه : ١٢٣، ١٢٤ ]، وقوله :﴿ وإذ قلْنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾ [ البقرة : ٣٤ ].
﴿ يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ ﴿ الذكور * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾.
بدل من جملة ﴿ يخلق ما يشاء ﴾ بدلَ اشتمال لأن خلقه ما يشاء يشتمل على هبته لمن يشاء ما يشاء.
وهذا الإبدال إدماجُ مَثَلٍ جامع لصور إصابة المحبوب وإصابة المكروه فإن قوله ﴿ ويجعل من يشاء عقيماً ﴾ هو من المكروه عند غالب البشر ويتضمن ضرباً من ضروب الكُفران وهو اعتقاد بعض النعمة سيئة في عادة المشركين من تطيرهم بولادة البَنات لهم، وقد أشير إلى التعريض بهم في ذلك بتقديم الإناث على الذكور في ابتداء تعداد النعم الموهوبة على عكس العادة في تقديم الذكور على الإناث حيثما ذكرا في القرآن في نحو ﴿ إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾ [ الحجرات : ١٣ ] وقوله :﴿ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ﴾ [ القيامة : ٣٩ ] فهذا من دقائق هذه الآية.
والمراد : يهب لمن يشاء إناثاً فقط ويهب لمن يشاء الذكور فقط بقرينة قوله :﴿ أو يُزَوِّجهم ذُكْراناً وإناثاً ﴾.