﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا ﴾ أي : ما شرعنا القبلة، كقوله تعالى :﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ﴾ [ المائدة : ١٠٣ ] أي : ما شرعها. و :﴿ التي كنت عليها ﴾ ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعوليّ :﴿ جعل ﴾ أي : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، أي : في مكة تستقبلها قبل الهجرة، وهي الكعبة. يعني : وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاء. أو :﴿ كنت عليها ﴾ بمعنى صرت عليها الآن. كقوله تعالى :: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ [ آل عِمْرَان : ١١٠ ]. أو بمعنى كنت على تطلّبها، أي : حريصاً عليه، وراغباً فيه. كما يفصح عنه قوله تعالى بعد :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] الآية.
وعلى هذه الأوجه، فتكون الآية بياناً للحكمة في جعل الكعبة قبلة، أو معنى :﴿ التي كنت عليها ﴾ : قبل وقتك هذا، وهي بيت المقدس. أي : إنما شرعنا لك التوجه أولاً إليه ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك، حيثما توجهت، من غيره. فتكون الآية بياناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة أولاً.
ثم اعلم أن الحكمة هو التمييز بين الناس بقوله :﴿ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾ في كل ما يؤمر به، فيثبت عند تقلب الأحكام بما في قلبه من صدق التعلق بالله والتوجه له أيَّانَ ما وجهه :﴿ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ أي : يرتد عن دينه فينافق، أو يكفر ممن كان يظهر الاتّباع. وأصل المنقلب على عقبيه : الراجح مستديراً في الطريق الذي قد كان قطعه منصرفاً عنه، استعير لكل راجع عن أمر كان فيه من دين أو خير.


الصفحة التالية
Icon