لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآيات لكفت في إبطال القول بالتقليد وذلك لأنه تعالى بيّن أن هؤلاء الكفار لم يتمسكوا في إثبات ما ذهبوا إليه لا بطريق عقلي ولا بدليل نقلي، ثم بيّن أنهم إنما ذهبوا إليه بمجرد تقليد الآباء والأسلاف، وإنما ذكر تعالى هذه المعاني في معرض الذم والتهجين، وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل، ومما يدل عليه أيضاً من حيث العقل أن التقليد أمر مشترك فيه بين المبطل وبين المحق وذلك لأنه كم حصل لهذه الطائفة قوم من المقلدة فكذلك حصل لأضدادهم أقوام من المقلدة فلو كان التقليد طريقاً إلى الحق لوجب كون الشيء ونقيضه حقاً ومعلوم أن ذلك باطل.
المسألة الثالثة :
أنه تعالى بيّن أن الداعي إلى القول بالتقليد والحامل عليه، إنما هو حب التنعم في طيبات الدنيا وحب الكسل والبطالة وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال لقوله ﴿إلاَّ قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة﴾ والمترفون هم الذين أترفتهم النعمة أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق، وإذاعرفت هذا علمت أن رأس جميع الآفات حب الدينا واللذات الجسمانية ورأس جميع الخيرات هو حب الله والدار الآخرة، فلهذا قال عليه السلام :" حب الدنيا رأس كل خطيئة ".
ثم قال تعالى لرسوله :﴿قُلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ﴾ أي بدين أهدى من دين آبائكم فعند هذا حكى الله عنهم أنهم قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وإن جئتنا بما هو أهدى ﴿إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون﴾ وإن كان أهدى مما كنا عليه، فعند هذا لم يبق لهم عذر ولا علة، فلهذا قال تعالى :﴿فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين﴾ والمراد منه تهديد الكفار، والله أعلم. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ٢٧ صـ ١٧٤ ـ ١٧٨﴾