وإذا كان هذا القرآن بهاته المثابة فلا يأبَى مِن قبوله إلا قوم مسرفون في الباطل بُعداءُ عن الإنصاف والرشد، ولكن الله أراد هديهم فلا يقطع عنهم ذكره حتى يتمّ مراده ويكمُل انتشار دينه فعليهم أن يراجعوا عقولهم ويتدبروا إخلاصهم فإن الله غير مُؤاخِذِهم بما سلف من إسرافهم إن هم ثَابُوا إلى رشدهم.
والمقصود بوصف الكتاب بأنه عربي غَرضان : أحدهما التنويه بالقرآن، ومدحه بأنه منسوج على منوال أفصح لغة، وثانيهما التورّك على المعاندين من العرب حين لم يتأثروا بمعانيه بأنهم كمن يسمع كلاماً بلغة غير لغته، وهذا تأكيد لما تضمنه الحرفان المقطعان المفتتحة بهما السورة من معنى التحدّي بأن هذا كتاب بلغتكم وقد عجزتم عن الإتيان بمثله.
وحَرْف ( لعلّ ) مستعار لمعنى الإرادة وتقدم نظيره في قوله :﴿ لعلكم تعقلون ﴾ في أوائل سورة البقرة ( ٧٣ ).
والعقل الفهم.
والغرض : التعريضُ بأنهم أهملوا التدبر في هذا الكتاب وأن كماله في البيان والإفصاح نستأهل العناية بِه لا الإعراض عنه فقوله :﴿ لعلكم تعقلون ﴾ مشعر بأنهم لم يعقلوا.
والمعنى : أنّا يسرنا فهمه عليكم لعلكم تعقلون فأعرضتم ولم تعقلوا معانيه، لأنه قد نزل مقدار عظيم لو تدبروه لعقلوا، فهذا الخبر مستعمل في التعريض على طريقة الكناية.
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
عطف على جملة ﴿ إنا جعلناه قرآناً عربياً ﴾ [ الزخرف : ٣ ]، فهو زيادة في الثناء على هذا الكتاب ثناء ثانياً للتنويه بشأنه رفعةً وإرشاداً.
و﴿ أمّ الكتاب ﴾ : أصل الكتاب.
: والمراد بـ ﴿ أم الكتاب ﴾ علمُ الله تعالى كما في قوله :﴿ وعنده أمُّ الكتاب ﴾ في سورة الرعد ( ٣٩ )، لأن الأمّ بمعنى الأصل والكتاب هنا بمعنى المكتوب، أي المحقق الموثق وهذا كناية عن الحق الذي لا يقبل التغيير لأنهم كانوا إذا أرادوا أن يحققوا عهداً على طول مدة كتبوه في صحيفة، قال الحارث بن حلزة :


الصفحة التالية
Icon