فصل


قال الفخر :
﴿ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٤٠) ﴾
اعلم أنه تعالى لما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم في هذه الآية بالصمم والعمى وما أحسن هذا الترتيب، وذلك لأن الإنسان في أول اشتغاله بطلب الدنيا يكون كمن حصل بعينه رمد ضعيف، ثم كلما كان اشتغاله بتلك الأعمال أكثركان ميله إلى الجسمانيات أشد وإعراضه عن الروحانيات أكمل، لما ثبت في علوم العقل أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات الراسخة فينتقل الإنسان من الرمد إلى أن يصير أعشى فإذا واظب على تلك الحالة أياماً أخرى انتقل من كونه أعشى إلى كونه أعمى، فهذا ترتيب حسن موافق لما ثبت بالبراهين اليقينية، روي أنه ﷺ كان يجتهد في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا تصميماً على الكفر وتمادياً في الغي، فقال تعالى :﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي﴾ يعني أنهم بلغوا في النفرة عنك وعن دينك إلى حيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالأصم، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالأعمى، ثم بيّن تعالى أن صممهم وعماهم إنما كان بسبب كونهم في ضلال مبين.
ولما بيّن تعالى أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم قال :﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ﴾ يريد حصول الموت قبل نزول النقمة بهم ﴿فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ﴾ بعدك أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من الذل والقتل فإنا مقتدرون على ذلك، واعلم أن هذا الكلام يفيد كمال التسلية للرسول عليه السلام لأنه تعالى بيّن أنهم لا تؤثر فيهم دعوته واليأس إحدى الراحتين، ثم بيّن أنه لا بد وأن ينتقم لأجله متهم إما حال حياته أو بعد وفاته، وذلك أيضاً يوجب التسلية، فبعد هذا أمره أن يستمسك بما أمره تعالى، فقال :﴿فاستمسك بالذى أُوحِىَ إِلَيْكَ﴾ بأن تعتقد أنه حق وبأن تعمل بموجبه فإنه الصراط المستقيم الذي لا يميل عنه إلا ضال في الدين.


الصفحة التالية
Icon