ولما ثبت بما مضى أنه سبحانه متصف بالإحياء والإماتة، وكان إنكار ذلك عناداً لا يستطيع أحد يثبت الإله أن ينكره، وكان الإقرار بذلك في بعض وإنكاره في بعض تحكماً ومخالفاً لحاكم العقل وصارم النقل، وكان من الآيات التي أوتوها إحياؤهم بعد إماتتهم حين طلبوا الرؤية فأخذتهم الصاعقة، وحين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وكان ذلك هو البعث بعينه، وكان العرب ينكرونه ويبالغون في إنكارهم له ولا يسألونهم عنه، قال موبخاً لهم مشيراً بالتأكيد إلى أنه لا يكاد يصدق أن أحداً ينكر ذلك لما له من الأدلة :﴿إن﴾ وحقرهم بقوله :﴿هؤلاء﴾ أي الأدنياء الأقلاء الأذلاء ﴿ليقولون﴾ أي بعد قيام الحجة البالغة عليهم مبالغين في الإنكار في نظير تأكيد الإثبات :﴿إن﴾ أي ما.
ولما كان قد تقدم قوله تعالى ﴿يحيي ويميت﴾ وهم يعلمون أن المراد به أن يتكرر منه الإحياء للشخص الواحد، وكان تعالى قد قال ولا يخاطبهم إلا بما يعرفونه ﴿وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون﴾ [ البقرة : ٢٨ ] أي بالانتشار بعد الحياة وقال ﴿أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين﴾ [ غافر : ١١ ] قالوا : ما ﴿هي إلا موتتنا﴾ على حذف مضاف أي ما الحياة إلا حياة موتتنا ﴿الأولى﴾ أي التي كانت قبل نفخ الروح - كما سيأتي في الجاثية ﴿إن هي إلا حياتنا الدنيا﴾ وعبروا عنها بالموتة إشارة إلى أن الحياة في جنب الموت المؤبد على زعمهم أمر متلاش لا نسبة لها منه، وساق سبحانه كلامهم على هذا الوجه إشارة إلى أن الأمور إذا قيس غائبها على شاهدها، كان الإحياء بعد الموتة الثانية أولى لكونه بعد حياة من الإحياء بعد الموتة الأولى، فحط الأمر على أن الابتداء كان من موت لم يتقدمه حياة، والقرار يكون على حياة لا يعقبها موت.


الصفحة التالية
Icon