واعلم أن الوصف الأول يفيد أن هذا الكتاب يماثل سائر الكتب الإلهية في الدعوة إلى هذه المطالب العالية الشريفة، والوصف الثاني يفيد أن هذه المطالب التي اشتمل القرآن عليها مطلب حقة صدق في أنفسها، يعلم كل أحد بصريح عقله كونها كذلك، سواء وردت الكتب الإلهية قبل ذلك بها أو لم ترد، فإن قالوا كيف قالوا ﴿مِن بَعْدِ موسى﴾ ؟ قلنا قد نقلنا عن الحسن إنه قال إنهم كانوا على اليهودية، وعن ابن عباس أن الجن ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا من بعد موسى، ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا ﴿ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله﴾ واختلفوا في أنه هل المراد بداعي الله الرسول أو الواسطة التي تبلغ عنه ؟ والأقرب أنه هو الرسول لأنه هو الذي يطلق عليه هذا الوصف.
واعلم أن قوله ﴿أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله﴾ فيه مسألتان :
المسألة الأولى :
هذه الآية تدل على أنه ﷺ كان مبعوثاً إلى الجن كما كان مبعوثاً إلى الإنس قال مقاتل، ولم يبعث الله نبياً إلى الإنس والجن قبله.
المسألة الثانية :
قوله ﴿أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله﴾ أمر بإجابته في كل ما أمر به، فيدخل فيه الأمر بالإيمان إلا أنه أعاد ذكر الإيمان على التعيين، لأجل أنه أهم الأقسام وأشرفها، وقد جرت عادة القرآن بأنه يذكر اللفظ العام، ثم يعطف عليه أشرف أنواعه كقوله
﴿وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] وقوله ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ [ الأحزاب : ٧ ] ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان وهي قوله ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى :
قال بعضهم كلمة ﴿مِنْ﴾ ههنا زائدة والتقدير : يغفر لكم ذنوبكم، وقيل بل الفائدة فيه أن كلمة ﴿مِنْ﴾ ههنا لابتداء الغاية، فكان المعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب، ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل.