وقال ابن عاشور :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (٢٥) ﴾
لم يزل الكلام على المنافقين فالذين ارتدوا على أدبارهم منافقون، فيجوز أن يكون مراداً به قوم من أهل النفاق كانوا قد آمنوا حقا ثم رجعوا إلى الكفر لأنهم كانوا ضعفاء الإيمان قليلي الاطمئنان وهم الذين مثلهم الله في سورة البقرة ( ١٧ ) بقوله :﴿ مَثَلهم كمثل الذين استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ﴾ الآية.
والارتداد على الأدبار على هذا الوجه : تمثيل للراجع إلى الكفر بعد لإيمان بحال من سار ليصل إلى مكان ثم ارتد في طريقه.
ولما كان الارتداد سيراً إلى الجهة التي كانت وراء السائر جُعل الارتداد إلى الأدبار، أي إلى جهة الأدبار.
وجيء بحرف على } للدلالة على أن الارتداد متمكن من جهة الأدبار كما يقال : على صراط مستقيم.
والهدى : الإيمان، وتبيّن الهدى لهم على هذا الوجه تبيّن حقيقي لأنهم ما آمنوا إلا بعد أن تبين لهم هدى الإيمان.
وعلى هذا الوجه فالإتيان بالموصول والصلة ليس إظهاراً في مقام الإضمار لأن أصحاب هذه الصلة بعض الذين كان الحديث عنهم فيما تقدم.
ويجوز أن يكون مراداً به جميعُ المنافقين، عبر عن تصميمهم على الكفر بعد مشاركتهم المسلمين في أحوالهم في مجلس النبي ﷺ والصلاة معه وسماععِ القرآن والمواعظ بالارتداد لأنه مفارقة لتلك الأحوال الطيبة، أي رجعوا إلى أقوال الكفر وأعماله وذلك إذا خلوا إلى شياطينهم، وتبين الهدى على هذا الوجه كونه بيّناً في نفسه، وهو بيّن لهم لوضوح أدلته ولا غبار عليه، فهذا التبين من قبيل قوله تعالى :﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه ﴾ [ البقرة : ٢ ]، أي ليس معه ما يوجب ريب المرتابين.
ويجوز أن يكون المراد به قوماً من المنافقين لم يقاتلوا مع المسلمين بعد أن علموا أن القتال حق.