قوله تعالى ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾
قال الماوردى :
﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : وبشر الصابرين على الجهاد بالنصر.
والثاني : وبشر الصابرين على الطاعة بالجزاء.
والثالث : وبشر الصابرين على المصائب بالثواب، وهو أشبه لقوله من بعد :
﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا : إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ أ هـ ﴿النكت والعيون حـ ١صـ ٢١٠﴾
فائدة
قال حجة الإسلام الغزالي ـ رحمه الله ـ :
اعلم أن الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة، أما في البهائم فلنقصانها، وأما في الملائكة فلكمالها، بيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات، وليس لشهواتها عقل يعارضها، حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبراً، وأما الملائكة فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية والابتهاج بدرجة القرب منها ولم يسلط عليهم شهوة صارفة عنها، حتى تحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر، وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة، ولم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم يظهر فيه شهوة اللعب، ثم شهوة النكاح، وليس له قوة الصبر ألبتة، إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر، قام القتال بينهما لتضاد مطالبهما أما البالغ فإن فيه شهوة تدعوه إلى طلب اللذات العاجلة، والإعراض عن الدار الآخرة، وعقلاً يدعوه إلى الإعراض عنها، وطلب اللذات الروحانية الباقية، فإذا عرف العقل أن الاشتغال بطلب هذه اللذات العاجلة، عن الوصول إلى تلك اللذات الباقية، صارت داعية العقل صادة ومانعة لداعية الشهوة من العمل، فيسمى ذلك الصد والمنع صبراً، ثم اعلم أن الصبر ضربان.
أحدهما : بدني، كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليه، وهو إما بالفعل كتعاطي الأعمال الشاقة أو بالاحتمال كالصبر على الضرب الشديد والألم العظيم.
والثاني : هو الصبر النفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الشهوة ومشتهيات الطبع، ثم هذا الضرب إن كان صبراً عن شهوة البطن والفرج سمي عفة، وإن كان على احتمال مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي عليه الصبر، فإن كان في مصيبة اقتصر عليه باسم الصبر ويضاده حالة تسمى الجزع والهلع، وهو إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب وغيرها وإن كان في حال الغنى يسمى ضبط النفس ويضاده حالة تسمى : البطر.


الصفحة التالية
Icon