ومحل التحذير والنهي إنما هو تُهْمَة لا سبب لها يوجبها ؛ كمن يُتّهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلاً ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك.
ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى :"وَلاَ تَجَسَّسُوا" وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبّصر ويستمع لتحقيق ما وقع له من تلك التهمة.
فنهى النبيّ ﷺ عن ذلك.
وإن شئت قلت : والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراماً واجب الاجتناب.
وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأُونِسَت منه الأمانة في الظاهر، فظنُّ الفساد به والخيانة محرم ؛ بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث.
وعن النبيّ ﷺ :
" إن الله حَرّم من المسلم دَمَه وعِرْضَه وأن يُظَن به ظنّ السوء " وعن الحسن : كنا في زمنٍ الظنُّ بالناس فيه حرام، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظُنّ في الناس ما شئت.
الثالثة للظن حالتان : حالة تعرف وتَقْوَى بوجه من وجوه الأدلة فيجوز الحكم بها، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن ؛ كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قِيَم المتلفات وأروش الجنايات.
والحالة الثانية أن يقع في النفس شيء من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده، فهذا هو الشك، فلا يجوز الحكم به، وهو المنهي عنه على ما قررناه آنفاً.
وقد أنكرت جماعة من المبتدِعة تعبد الله بالظن وجواز العمل به ؛ تحكُّماً في الدِّين ودعوى في المعقول.
وليس في ذلك أصل يعوّل عليه ؛ فإن البارىء تعالى لم يذمّ جميعه، وإنما أورد الذمّ في بعضه.
وربما تعلقوا بحديث أبي هريرة "إياكم والظن" فإن هذا لا حجة فيه ؛ لأن الظن في الشريعة قسمان : محمود ومذموم ؛ فالمحمود منه ما سلم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه.


الصفحة التالية
Icon