ومنها - أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم، وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهويناً للخطب على رسول الله ﷺ، وتسلية له، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجزهم، وسوء أدبهم، وهلم جرا... من أول السورة إلى آخر هذه الآية. فتأمل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله، متقدمة على الأمور كلها، من غير حصر ولا تقييد. ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر، كأن الأول بساط الثاني، ووطاء لذكره. ثم ذكر ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك، فغضوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند الله. ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم، من الصياح برسول الله ﷺ، في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدراً، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه، وجسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، حتى خاطبه جلّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغاً. ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن أبي عبيد - ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى - أنه قال : ما دققت باباً على عالم قط، حتى يخرج في وقت خروجه. انتهى.
الرابع - قال ابن كثير : قال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره ﷺ، كما كان يكره في حياته ؛ لأنه محترم حياً، وفي قبره ﷺ. وقد روينا عن أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي ﷺ قد ارتفعت أصواتهما، فحصبهما. ثم ناداهما فقال : من أين أنتما ؟ قالا : من أهل الطائف. قال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً. انتهى.


الصفحة التالية
Icon