وقال مجاهد أيضاً : وكل الله بالإنسان ملكين بالليل، وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره ﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ ﴾ إنما قال ﴿ قعيد ﴾، ولم يقل قعيدان وهما اثنان ؛ لأن المراد : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه، كذا قال سيبويه كقول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما... عندك راض والرأي مختلف
وقال الفرزدق :
وأتى وكان وكنت غير عذور... أي : وكان غير عذور، وكنت غير عذور، وقال الأخفش، والفراء : إن لفظ قعيد يصلح للواحد والاثنين والجمع ولا يحتاج إلى تقدير في الأوّل.
قال الجوهري، غيره من أئمة اللغة والنحو : فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والقعيد المقاعد كالجليس بمعنى المجالس ﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ أي : ما يتكلم من كلام، فيلفظه ويرميه من فيه إلاّ لديه أي : لدى ذلك اللافظ رقيب أي : ملك يرقب قوله ويكتبه، والرقيب : الحافظ المتتبع لأمور الإنسان الذي يكتب ما يقوله من خير وشر، فكاتب الخير هو ملك اليمين، وكاتب الشرّ ملك الشمال.
والعتيد : الحاضر المهيأ.
قال الجوهري : العتيد الحاضر المهيأ، يقال : عتده تعتيداً وأعتده اعتداداً أي : أعده، ومنه ﴿ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ متكأ ﴾ [ يوسف : ٣١ ] والمراد هنا : أنه معدّ للكتابة مهيأ لها ﴿ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ﴾ لما بيّن سبحانه أن جميع أعمالهم محفوظة مكتوبة ذكر بعده ما ينزل بهم من الموت، والمراد بسكرة الموت : شدّته وغمرته التي تغشى الإنسان، وتغلب على عقله، ومعنى ﴿ بالحق ﴾ : أنه عند الموت يتضح له الحق، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والوعد والوعيد، وقيل : الحق هو الموت، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير، أي : وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذا قرأ أبو بكر الصديق، وابن مسعود.


الصفحة التالية
Icon