ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقد عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره، وتطمين النفس من جهته، وتعليق القلب بالسماء في شأنه، لا بالأرض وأسبابها القريبة. وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها. إما مباشرة كقوله تعالى:(وفي السماء رزقكم وما توعدون)..(إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين).. وإما تعريضا كقوله يصور حال عباده المتقين مع المال:(وفي أموالهم حق للسائل والمحروم).. ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه القلائل - أو من حسبهم ضيوفه من الملائكة - بعجل سمين، يسارع به إليهم عقب وفودهم إليه، وبمجرد إلقاء السلام عليه، وهو لم يعرفهم إلا منذ لحظة !
فتخليص القلب من أوهاق الأرض، وإطلاقه من إسار الرزق، وتعليقه بالسماء، ترف أشواقه حولها، ويتطلع إلى خالقها في علاه، بلا عائق يحول بينه وبين الانطلاق، ويعوقه عن الفرار إلى الله. هو محور السورة بكل موضوعاتها وقضاياها التي تطرقها. ومن ثم كان هذا الاقتتاح، وكان ذلك الإيقاع الغامض في أولها، وكان القسم بعده بالسماء، وكان تكرار الإشارة إلى السماء أيضا..
وفي هذا كانت صورة المتقين التي يرسمها في مطلع السورة:(إن المتقين في جنات وعيون. آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين. كانوا قليلا من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون. وفي أموالهم حق للسائل والمحروم).. فهي صورة التطلع إلى الله، والتجرد له، والقيام في عبادته بالليل، والتوجه إليه في الأسحار. مع إرخاص المال، والتخلص من ضغطه، وجعل نصيب السائل والمحروم حقا فيه.
وفي هذا كان التوجيه إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس مع تعليق القلوب بالسماء في شأن الرزق، لا بالأرض وما فيها من أسبابه القريبة:(وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون. وفي السماء رزقكم وما توعدون)..