في الترتيب فيه وجهان أحدهما : أنه تقرير لما سبق وهو كقوله تعالى :﴿الذى خَلَقَ الموت والحياة﴾ [ الملك : ٢ ] فقال :﴿نَحْنُ خلقناكم﴾ [ الواقعة : ٥٧ ] ثم قال :﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت﴾ فمن قدر على الإحياء والإماتة وهما ضدان ثبت كونه مختاراً فيمكن الإحياء ثانياً منه بعد الإماتة بخلاف ما لو كان الإحياء منه ولم يكن له قدرة على الإماتة فيظن به أنه موجب لا مختار، والموجب لا يقدر على كل شيء ممكن فقال : نحن خلقناكم وقدرنا الموت بينكم فانظروا فيه واعلموا أنا قادرون أن ننشئكم، ثانيهما : أنه جواب عن قول مبطل يقول : إن لم تكن الحياة والموت بأمور طبيعية في الأجسام من حرارات ورطوبات إذا توفرت بقيت حية، وإذا نقصت وفنيت ماتت لم يقع الموت وكيف يليق بالحكيم أن يخلق شيئاً يتقن خلقه ويحسن صورته ثم يفسده ويعدمه ثم يعيده وينشئه، فقال تعالى : نحن قدرنا الموت، ولا يرد قولكم : لماذا أعدم ولماذا أنشأ، ولماذا هدم، لأن كمال القدرة يقتضي ذلك وإنما يقبح من الصائغ والباني صياغة شيء وبناؤه وكسره وإفناؤه لأنه يحتاج إلى صرف زمان إليه وتحمل مشقة وما مثله إلا مثل إنسان ينظر إلى شيء فيقطع نظره عنه طرفة عين، ثم يعاوده ولا يقال له : لم قطعت النظر ولم نظرت إليه، ولله المثل الأعلى من هذا، لأن هنا لا بد من حركة وزمان ولو توارد على الإنسان أمثاله لتعب لكن في المرة الواحدة لا يثبت التعب والله تعالى منزه عن التعب ولا افتقار لفعله إلى زمان ولا زمان لفعله ولا إلى حركة بجرم، وفيه وجه آخر ألطف منها، وهو أن قوله تعالى :﴿أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ﴾ [ الواقعة : ٥٨ ] معناه أفرأيتم ذلك ميتاً لا حياة فيه وهو مني، ولو تفكرتم فيه لعلمتم أنه كان قبل ذلك حياً متصلاً بحي وكان أجزاء مدركة متألمة متلذذة ثم إذا أمنيتموه لا تستريبون في كونه ميتاً كالجمادات، ثم إن الله تعالى يخلقه آدمياً ويجعله بشراً سوياً


الصفحة التالية
Icon