وقال أبو السعود فى الآيات السابقة :
﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم بِرُسُلِنَا ﴾
أي ثُمَّ أرسلنَا بعدَهُم رسلنَا ﴿ وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ أي أرسلنَا رسولاً بعد رسولٍ حتَّى انتهى إلى عيسَى ابنِ مريمَ عليه السَّلامُ والضميرُ لنوحٍ وإبراهيمَ ومَنْ أُرسِلا إليهم، أو مَنْ عاصرهُما من الرُّسلِ لا للذريةِ فإنَّ الرسلَ المُقفَّى بهم من الذريةِ ﴿ وءاتيناه الإنجيل ﴾ وقُرِىءَ بفتحِ الهمزةِ فإنَّه أعجميٌّ لا يلزمُ فيه مراعاةُ أبنيةِ العربِ ﴿ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً ﴾ وقُرِىءَ رآفةً على فَعَالةٍ. ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ أي وفَّقناهُم للتراحمِ والتعاطفِ بينهُم ونحوه في شأن أصحابِ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ﴾ ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ﴾ منصوبٌ إمَّا بفعلٍ مضمرٍ يفسرُه الظاهرُ أيْ وابتدعُوا رهبانيةً ﴿ ابتدعوها ﴾ وإمَّا بالعطفِ على ما قبلهَا وابتدعُوها صفةٌ لها أي وجعلنَا في قلوبِهم رأفةً ورحمةً ورهبانيةً مبتدعة من عندهم أي وفَّقناهُم للتراحم بينهُم ولابتداعِ الرهبانيةِ واستحداثها وهي المبالغةُ في العبادةِ بالرياضةِ والانقطاع عن النَّاسِ ومعناهَا الفعلةُ المنسوبةُ إلى الرَّهبانِ وهو الخائفُ فَعْلانُ من رَهبَ كخشيانَ من خَشِي، وقُرِىءَ بضمِّ الراءِ كأنَّها نسبةٌ إلى الرُّهبانِ وهو جمعُ راهبٍ كراكبٍ ورُكبان وسببُ ابتداعِهم إيَّاها أنَّ الجبابرةَ ظهروُا على المؤمنينَ بعدَ رفعِ عيسَى عليهِ السَّلامُ فقاتلُوهم ثلاثَ مراتٍ فقُتلوا حتَّى لم يبقَ منُهم إلا قليلٌ فخافُوا أنْ يُفتتنُوا في دينِهم فاختارُوا الرَّهبانيةَ في قُللِ الجبالِ فارِّينَ بدينِهم مُخلصينَ أنفسَهُم للعبادةِ. وقولُه تعالَى :﴿ مَا كتبناها عَلَيْهِمْ ﴾ جملةٌ مستأنفةٌ، وقيلَ صفةٌ أُخْرى لرهبانيةٍ والنفيُ على الوجهِ الأولِ متوجِةً إلى أصلِ الفعلِ. وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله ﴾ استثناءٌ منقطعٌ أي ما فرضناهَا نحنُ عليهم رأساً ولكنُهم ابتدعُوها