بعيدةٍ مَهْوَى القُرْطِ طيبةِ النَّشْر... أراد الحلف بطريقة الدعاء على نفسه أن يأكل دماً أي دية دَممٍ فقد تضمن الدعاءَ على نفسه بقتل أحد أقاربه وبذهاب مروءته، لأنهم كانوا يتعيرون بأخذ الديَة عن القتيل ولا يرضون إلاّ بالقَوَد.
واختار عبد الحكيم أنه استعارة تمثيلية شبهت الهيئة الحاصلة من أكلهم الرُّشا بالهيئة المنتزعة من أكلهم النار وأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.
قلت : ولا يضر كون الهيئة المشبه بها غيرَ محسوسة لأنها هيئة متخيلة كقوله :(أعلامُ ياقوْت نشرن على رماححٍ من زبرجد) فالمركب الذي من شأنه أن يدل على الهيئة المشبهة أن يقال : أولئك ما يأخذون إلاّ أخذاً فظيعاً مُهلكاً فإن تناولها كتناول النار للأكل فإنه كلَّه هلاك من وقت تناولها باليد إلى حصولها في البطن، ووجه كون الرشوة مهلكة أن فيها اضمحلال أمر الأمة وذهاب حرمة العلماء والدين فتكون هذه الاستعارة بمنزلة قوله تعالى :﴿وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها﴾ [آل عمران : ١٠٣] أي على وشك الهَلاك والاضمحلال.
والذي يدعو إلى المصير للتمثيلية هو قوله تعالى :﴿في بطونهم﴾ فإن الرشوة لا تؤكل في البطن فيتعين أن يكون المركب كله استعارة، ولو جعلت الاستعارة في خصوص لفظ النار لكان قوله :﴿يأكلون في بطونهم﴾ مستعملاً في المركب الحقيقي، وهو لا يصح، ولولا قوله ﴿في بطونهم﴾ لأمكن أن يقال : إنَّ ﴿يأكلون﴾ هنا مستعمل حقيقة عرفية في غصب الحق ونحو ذلك.
وجوزوا أن يكون قوله :﴿يأكلون﴾ مستقبلاً، أي ما سيأكلون إلاّ النار على أنه تهديد ووعيد بعذاب الآخرة، وهو وجيه، ونكتة استعارة الأكل هنا إلى اصطلائهم بنار جهنم هي مشاكلة تقديرية لقوله :﴿يشترون به ثمناً قليلاً﴾ فإن المراد بالثمن هنا الرشوة، وقد شاع تسمية أخذ الرشوة أكلاً.