الثانية : في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال :" إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد " وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ :" إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه " فبيّن في هذا الحديث غاية المنع وهي أن يجد الثالث من يتحدّث معه كما فعل ابن عمر ؛ وذلك أنه كان يتحدّث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعاً، فقال له وللأوّل : تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة.
خرجه الموطأ.
وفيه أيضاً التنبيه على التعليل بقوله :"من أجل أن يحزنه" أي يقع في نفسه ما يحزن لأجله.
وذلك بأن يقدّر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره، أو أنه لم يروه أهلاً ليشركوه في حديثهم، إلى غير ذلك من أُلْقِيات الشيطان وأحاديث النفس.
وحصل ذلك كله من بقائه وحده، فإذا كان معه غيره أَمِن ذلك ؛ وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحدٍ ولا عشرة ولا ألف مثلاً ؛ لوجود ذلك المعنى في حقه ؛ بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع، فيكون بالمنع أولى.
وإنما خص الثلاثة بالذكر ؛ لأنه أوّل عددٍ يتأتى ذلك المعنى فيه.
وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب ابن عمر ومالك والجمهور.
وسواء أكان التناجي في مندوبٍ أو مباح أو واجب فإنّ الحزن يقع به.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك كان في أوّل الإسلام ؛ لأن ذلك كان في حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الإسلام سقط ذلك.
وقال بعضهم : ذلك خاص بالسفر في المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه، فأما في الحضر وبين العمارة فلا ؛ فإنه يجد من يعينه، بخلافِ السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم المغيث.
والله أعلم. أ هـ ﴿تفسير القرطبى حـ ١٧ صـ ﴾


الصفحة التالية
Icon