قالوا كانت حصونهم منيعة فظنوا أنها تمنعهم من رسول الله، وفي الآية تشريف عظيم لرسول الله، فإنها تدل على أن معاملتهم مع رسول الله هي بعينها نفس المعاملة مع الله، فإن قيل : ما الفرق بين قولك : ظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم وبين النظم الذي جاء عليه، قلنا : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم إسماً، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالون بأحد يطمع في منازعتهم، وهذه المعاني لا تحصل في قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم.
قوله تعالى :﴿فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ﴾ في الآية مسائل :
المسألة الأولى :
في الآية وجهان الأول : أن يكون الضمير في قوله :﴿فأتاهم﴾ عائد إلى اليهود، أي فأتاهم عذاب الله وأخذهم من حيث لم يحتسبوا والثاني : أن يكون عائداً إلى المؤمنين أي فأتاهم نصر الله وتقويته من حيث لم يحتسبوا، ومعنى : لم يحتسبوا، أي لم يظنوا ولم يخطر ببالهم، وذلك بسبب أمرين أحدهما : قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه غيلة، وذلك مما أضعف قوتهم، وفتت عضدهم، وقل من شوكتهم والثاني : بما قذف في قلوبهم من الرعب.
المسألة الثانية :
قوله :﴿فأتاهم الله﴾ لا يمكن إجراؤه على ظاهره باتفاق جمهور العقلاء، فدل على أن باب التأويل مفتوح، وأن صرف الآيات عن ظواهرها بمقتضى الدلائل العقلية جائز.
المسألة الثالثة :
قال صاحب الكشاف : قرىء ﴿فأتاهم الله﴾ أي فآتاهم الهلاك، واعلم أن هذه القراءة لا تدفع ما بيناه من وجوه التأويل، لأن هذه القراءة لا تدفع القراءة الأولى، فإنها ثابتة بالتواتر، ومتى كانت ثابتة بالتواتر لا يمكن دفعها، بل لا بد فيها من التأويل.