الاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسمي المعبر معبراً لأن به تحصل المجاوزة، وسمي العلم المخصوص بالتعبير، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات، لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال : السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ولهذا قال المفسرون : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها، وفي قوله :﴿يا أولي الأبصار﴾ وجهان الأول : قال ابن عباس : يريد يا أهل اللب والعقل والبصائر والثاني : قال الفراء :﴿يا أولي الأبصار﴾ يا من عاين تلك الواقعة المذكورة.
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (٣)
معنى الجلاء في اللغة، الخروج من الوطن والتحول عنه، فإن قيل : أن ﴿لَوْلاَ﴾ تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره فيلزم من ثبوت الجلاء عدم التعذيب في الدنيا، لكن الجلاء نوع من أنواع التعذيب، فإذاً يلزم من ثبوت الجلاء عدمه وهو محال، قلنا معناه : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا بالقتل كمافعل بإخوانهم بني قريظة، وأما قوله :﴿وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار﴾ فهو كلام مبتدأ وغير معطوف على ما قبله، إذ لو كان معطوفاً على ما قبله لزم أن لا يوجد لما بينا، أن ( لولا ) تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط.
أما قوله تعالى :﴿ذلك بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ فهو يقتضي أن علة ذلك التخريب هو مشاقة الله ورسوله، فإن قيل : لو كانت المشاقة علة لهذا التخريب لوجب أن يقال : أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب، ومعلوم أنه ليس كذلك، قلنا : هذا أحد ما يدل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها.
ثم قال :﴿وَمَن يُشَاقِّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ والمقصود منه الزجر. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ٢٩ صـ ٢٤٢ ـ ٢٤٦﴾


الصفحة التالية
Icon