فاستعدَوا عليه ملكهم، فأنزِل من صومعته فقدّموه لِيُصْلَب، فلما أوقفوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له : قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك في المرأة حتى أحبلتها وذبحتها وذبحتَ ابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك خلّصتك مما أنت فيه.
قال : فكفر العابد بالله ؛ فلما كفر خلّى عنه الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه.
قال : ففيه نزلت هذه الآية ﴿ كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين ﴾ إلى قوله ﴿ جَزَآءُ الظالمين ﴾
قال ابن عباس : فضرب الله هذا مثلاً للمنافقين مع اليهود.
وذلك أن الله تعالى أمر نبيّه عليه السلام أن يُجْلي بني النَّضِير من المدينة، فَدَسّ إليهم المنافقون ألا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلوكم كنا معكم، وإن أخرجوكم كنا معكم، فحاربوا النبيّ ﷺ فخذلهم المنافقون، وتبّرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من بَرْصيصَا العابد.
فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون إلا بالتقِيّة والكتمان.
وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار فرموهم بالبهتان والقبيح، حتى كان أمر جُريج الراهب، وبرّأه الله فانبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس.
وقيل : المعنى مثَلُ المنافقين في غدرهم لبني النَّضِير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش :﴿ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ﴾ [ الأنفال : ٤٨ ] الآية.
وقال مجاهد : المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم.
ومعنى قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر ﴾ أي أغواه حتى قال : إني كافر.
وليس قول الشيطان :﴿ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين ﴾ حقيقة، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى :﴿ إِنِّي برياء مِّنكَ ﴾ وفتح الياء من "إني" نافع وابن كثير وأبو عمرو.
وأسكن الباقون.


الصفحة التالية
Icon