﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ]، فإن هؤلاء تصدقوا، وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه، ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه، ومن هذا المقام تَصَدق الصديق رضي الله عنه بجميع ماله، فقال له رسول الله ﷺ :< ما أبقيت لأهلك > ؟ فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله ! وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل، أحوج ما يكون إلى الماء، فردّه الآخر إلى الثالث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشربه أحد منهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ﴾ أي : فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإنفاق ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ أي : الفائزون بالسعادتين. وفي إضافة الشحّ إلى النفس إشارة لما قاله القاشانيّ من أن النفس مأوى كل شر ووصف رديء، وموطن كل رجس وخُلُق دنيء. والشح من غرائزها المعجونة في طينتها، لملازمتها الجهة السفلية، ومحبتها الحظوظ الجزئية، فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها. ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور من عصمه الله.
قال ابن جرير : الشح في كلام العرب البُخل، ومنع الفضل من المال. والعلماء يرون أن الشح في هذا الموضوع إنما هو أكل أموال الناس بغير حق، ثم روى أن رجلاً أتى ابن مسعود فقال : يا أبا عبد الرحمن ! إني أخشى أن تكون أصابتني هذه الآية القرآن :﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾، وأنا رجل شحيح، لا يكاد يخرج من يديّ شيء ! قال : ليس ذاك بالشح الذي ذكر الله في القرآن، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً، ذلك البخل، وبئس الشيء البخل. انتهى.