وقال الشيخ الطاهر بن عاشور :
القصاص بوزن فِعال وهو وزن مصدر فَاعَلَ من القص وهو القطع ومنه قولهم : طائر مقصوص الجناح ومنه سمي المقص لآلة القص أي القطع وقصة الشعر بضم القاف ما يقص منه لأنه يجري في حقين متبادلين بين جانبين يقال قاصّ فلان فلاناً إذا طرح من دين في ذمته مقداراً بدين له في ذمة الآخر فشبه التناصف بالقطع لأنه يقطع النزاع الناشب قبله، فلذلك سمي القَود وهو تمكينُ ولي المقتول من قَتل قاتِل مولاه قصاصاً قال تعالى :﴿ولكم في القصاص حياة﴾ [البقرة : ١٧٩]، وسميت عقوبة من يجرح أحداً جُرحاً عمداً عدواناً بأن يُجْرح ذلك الجارح مثل ما جَرح غيره قصَاصاً قال تعالى :﴿والجروح قصاص﴾ [المائدة : ٤٥] وسموا معاملة المعتدي بمثل جرمه قصاصاً ﴿والحرمت قصاص﴾ [البقرة : ١٩٤]، فماهية القصاص تتضمن ماهية التعويض والتماثل.
فقوله تعالى :﴿كتب عليكم القصاص في القتلى﴾ يتحمّل معنى الجزاء على القتل بالقتل للقاتل وتتحمل معنى التعادل والتماثل في ذلك الجزاء بما هو كالعوض له والمِثل، وتتحمل معنى أنه لا يقتل غير القاتل ممن لا شركة له في قتل القتيل فأفاد قوله :﴿كتب عليكم﴾ حق المؤاخذة بين المؤمنين في قتل القتلى فلا يذهب حق قتيل باطلاً ولا يُقتل غير القاتل باطلاً، وذلك إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية من إهمال دم الوضيع إذا قتله الشريف وإهمال حق الضعيف إذا قتله القَوي الذي يُخشى قومه، ومن تَحَكُّمهم بطلب قتل غير القاتل إذا قَتَل أحد رجُلاً شريفاً يطلبون قتل رجل شريف مثله بحيث لا يقتلون القاتل إلاّ إذا كان بواء للمقتول أي كفءا له في الشرف والمجد ويعتبرون قيمة الدماء متفاوتة بحسب تفاوت السودد والشرف ويُسمون ذلك التفاوت تكَايُلاً من الكيل، قالت ابنة بهدل بن قرقة الطائي تستثير رهطها على قتل رجل قتل أباها وتَذكر أنها ما كانت تقنع بقتله به لولا أن الإسلام أبطل تكايل الدماء :


الصفحة التالية
Icon