ولما أتم المثل بمن أساءتا الأدب فلم تنفعهما الوصلة بالأولياء بل زادتهما ضرراً للإعراض عن الخير مع قربه وتيسره، وبمن أحسنت الأدب فلم تضرها الوصلة بأعدى الأعداء بل زادتها خيراً لإحسانها مع قيام المغتر بها عن الإحسان ضرب مثلاً بقرينتها في قوله ـ ﷺ ـ كما رواه الشيخان عن أبي موسى ـ رضى الله عنه ـ :" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام " ومع مقارنتها لها في الكمال، فبين حاليهما في الثيوبة والبكورة طباق، فلم يبتلها سبحانه بخلطة زوج جمعاً بين ما تقدم من صنفي الثيبات والأبكار اللاتي يعطيهما لنبيه ـ ﷺ ـ فأحسنت الأدب في نفسها مع الله ومع سائر من لزمها الأدب معه من عباده فأحسن إليها رعاية لها على ما وفقها إليه من الإحسان، وذلك رعاية لأسلافها إذ كانوا من أعظم الأحباب فقال :﴿ومريم﴾ أي وضرب الله مثلاً لأهل الانفراد والعزلة من الذين آمنوا مريم ﴿ابنة عمران﴾ أي أحد الأحباب، وذكر وجه الشبه فقال :﴿التي أحصنت فرجها﴾ أي عفت عن السوء وجميع مقدماته عفة كانت كالحصن العظيم المانع من العدو فاستمرت على بكريتها إلى الممات فتزوجها في الجنة جزاء لها بخير عبادنا محمد ـ ﷺ ـ خاتم الأنبياء وإمام المرسلين.
ولما اغتنت بأنسها بروح الله الذي بثه في قلبها من محبة الذكر والعبادة عن الأنس بأرواح الناس، كان ذلك سبباً لأن وهبها روحاً منه جسده في أكمل الصور المقدرة في ذلك الحين فقال مخبراً عن ذلك :﴿فنفخنا﴾ أي بعظمتنا بواسطة ملكنا روح القدس.