وهذا الإطناب في هذه السورة مخالف لما في نظير هذه الآية من سورة النحل ( ٧٩ ) في قوله :﴿ ألم يَروا إلى الطير مسخرات في جَوّ السماء ما يمسكهن إلاّ الله ﴾ وذلك بحسب ما اقتضاه اختلاف المقامين فسورة النحل رابعة قبل سورة الملك، فلما أوقظت عقولهم فيها للنظر إلى ما في خلقة الطير من الدلائل فلم يتفطنوا وسُلك في هذه السورة مسلك الإِطناب بزيادة ذكر أوصاف ثلاثة:
فالوصف الأول : ما أفاده قوله : فوقهم } فإن جميع الدواب تمشي على الأرض والطير كذلك فإذا طار الطائر انتقل إلى حالة عجيبة مخالفة لبقية المخلوقات وهي السير في الجوّ بواسطة تحريك جناحيه وذلك سرّ قوله تعالى :﴿ يطير بجناحيه ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] بعد قوله :﴿ ولا طائر في ﴾ [ سورة الأنعام : ٣٨ ] لقصد تصوير تلك الحالة.
الوصف الثاني :﴿ صافات ﴾ وهو وصف بوزن اسم الفاعل مشتق من الصَّف، وهو كون أشياء متعددة متقاربة الأمكنة وباستواء، وهو قاصر ومتعد، يقال : صَفّوا، بمعنى اصطفوا كما حكى الله عن الملائكة :﴿ وإنا لنحن الصَّافُّون ﴾ [ الصافات : ١٦٥ ] وقال تعالى في البُدْن ﴿ فاذكروا اسم الله عليها صَوافَّ ﴾ [ الحج : ٣٦ ].
ويقال : صفهم إذا جعلهم مستوين في الموقف، وفي حديث ابن عباس في الجنائز "مرَّ رسول الله ﷺ بقبر منبوذ" إلى قوله :"فصفَّنا خلفه وكبَّر".
والمراد هنا أن الطير صافّة أجنحتها فحذف المفعول لعلمه من الوصف الجاري على الطير إذ لا تجعل الطير أشياء مصفوفة إلاّ ريش أجنحتها عند الطيران فالطائر إذا طار بسط جناحيه، أي مدها فصفّ ريش الجناح فإذا تمدد الجناحُ ظهر ريشه مصطّفاً فكان ذلك الاصطفاف من أثر فعل الطير فوصفت به، وتقدم عند قوله تعالى :﴿ والطير صافات ﴾ في سورة النور ( ٤١ ).
وبسط الجناحين يُمكّن الطائرَ من الطيران فهو كمدّ اليدين للسابح في الماء.