هذه ﴿ أم ﴾ التي تتضمن الإضراب عن الكلام الأول لا على جهة الرفض له، لكن على جهة الترك والإقبال على سواه، وهذا التوقيف لمحمد ﷺ، والمراد به توبيخ الكفار لأنه لو سألهم أجراً فأثقلهم غرم ذلك لكان لهم بعض العذر في إعراضهم وقرارهم، وقوله تعالى :﴿ أم عندهم الغيب فهم يكتبون ﴾ معناه : هل لهم علم بما يكون فيدعون مع ذلك أن الأمر على اختيارهم جار، ثم أمر تعالى نبيه بالصبر لحكمه، وأن يمضي لما أمر به من التبليغ واحتمال الأذى والمشقة، ونهى عن الضجر والعجلة التي وقع فيها يونس ﷺ، ثم اقتضبت القصة، وذكر ما وقع في آخرها من ندائه من بطن الحوت ﴿ وهو مكظوم ﴾، أي غيظه في صدره. وحقيقة الكظم : هو الغيظ والحزن والندم فحمل المكظوم عليه تجوزاً، وهو في الحقيقة كاظم، ونحو هذا قول ذي الرمة :[ البسيط ]
وأنت من حب مني مضمر حزناً... عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم
وقال النقاش : المكظوم، الذي أخذ بكظمه وهو مجاري القلب، ومنه سميت الكاظمة وهي القناة في جوف الأرض. وقرأ جمهور الناس :" لولا أن تداركه " أسند الفعل دون علامة تأنيث، لأن تأنيث النعمة غير حقيقي وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس :" تداركته " على إظهار العلامة، وقرأ ابن هرمز والحسن :" تدّاركه " بشد الدال على معنى : تتداركه وهي حكاية حال تام، فلذلك جاء الفعل مستقبلاً بمعنى :﴿ لولا أن ﴾، يقال فيه تتداركه نعمة من ربه ونحوه، قوله تعالى :﴿ فوجد فيها رجلين يقتتلان ﴾ فهذا وجه القراءة، ثم أدغمت التاء في الدال، والنعمة : هي الصفح والتوب، والاجتباء : الذي سبق له عنده، والعراء : الأرض الواسعة التي ليس فيها شيء يوارى من بناء ولا نبات ولا غيره من جبل ونحوه، ومنه قول الشاعر [ أبو الخراش الهذلي ] :[ الكامل ]
رفعت رجلاً لا أخاف عثارها... ونبذت بالأرض العراء ثيابي