وقال القرطبى :
قوله تعالى :﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّآ ﴾
أي حسبنا ﴿ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً ﴾، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولداً، حتى سمعنا القرآن وتبيَّنا به الحقّ.
وقرأ يعقوب والجحدريّ وابن أبي إسحق "أَنْ لَنْ تَقَوَّلَ".
وقيل : انقطع الإخبار عن الجنّ ها هنا فقال الله تعالى :﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس ﴾ فمن فتح وجعله من قول الجنّ ردّها إلى قوله :"أَنَّهُ استمع"، ومن كسر جعلها مبتدأ من قول الله تعالى.
والمراد به ما كانوا يفعلونه من قول الرجل إذا نزل بوادٍ : أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه ؛ فيبيت في جواره حتى يصبح ؛ قاله الحسن وابن زيد وغيرهما.
قال مقاتل : كان أوّل من تعوذ بالجنّ قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.
وقال كَرْدَم بن أبي السائب : خرجت مع أبي إلى المدينة أوّلَ ما ذُكر النبيّ ﷺ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حَمَلا من الغنم، فقال الراعي : يا عَامر الوادي، أنا جارك.
فنادى منادٍ يا سِرْحان أرسله، فأتى الحملَ يَشْتد.
وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة :﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً ﴾ أي زاد الجنُّ الإنس "رهقا" أي خطيئة وإثماً ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة.
والرهَق : الإثم في كلام العرب وغِشيان المحارم ؛ ورجلٌ رَهِقٌ إذا كان كذلك ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ [ يونس : ٢٧ ] وقال الأعشى :
لا شَيءَ ينفعني مِن دونِ رؤيتِها...
هل يَشتفِي وامِقٌ ما لم يُصِب رَهَقَا
يعني إثماً.
وأضيفت الزيادة إلى الجنّ إذ كانوا سبباً لها.
وقال مجاهد أيضاً :"فَزَادُوهُم" أي إن الإنس زادوا الجنّ طغياناً بهذا التعوّذ، حتى قالت الجنّ : سُدنا الإنس والجنّ.


الصفحة التالية
Icon