ثم طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ رسول اللّه منهم مع الفجر، فانطلق إليّ فقال تمت ؟ قلت لا واللّه يا رسول اللّه، لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول لهم اجلسوا، فقال لو خرجت (من خطتك) لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم، ثم قال : هل رأيت شيئا ؟ قلت نعم رأيت رجالا سودا عليهم ثياب بيض، قال أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة، قالوا يا رسول اللّه يقذرها الناس علينا (فنهى صلى اللّه عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث) فقلت يا رسول اللّه سمعت لغطا شديدا فقال إن الجن قد تدارأت (أي اختلفت فيما بينها وتدافعت في الخصومة) في قتيل قتل بينهم، فتحاكموا إليّ فقضيت بينهم بالحق (هذا ينافي قول من قال إنه صلّى اللّه عليه وسلم ما عرف ما ذا قال الجن وأي شيء فعلوا) بل تفيد أنه صلى اللّه عليه وسلم فهم منهم وأفهمهم، وإلا لما جاز أن يقضي بينهم، لأن القضاء لا يجوز إلا بعد معرفة قول المدعي والمدعى عليه، ولا يكون إلا بالإقرار أو البينة أو الحلف، وينافي القول أيضا بأنه لم ير الجن، فإذا كان ابن مسعود وهو محجّر عليه بعيد عنهم وآهم، فكيف به صلى اللّه عليه وسلم وقد أحاطوا به كالهالة في القمر ؟ أما إذا قيل إنه صلّى اللّه عليه وسلم لم يرهم على صورتهم التي خلقوا عليها فيجوز، لأنهم يتكيفون بصور مختلفة وهيئات متباينة، وقد جاء أنه صلّى اللّه عليه وسلم رآهم.
بصفة الإنس كما مر في قول ابن مسعود رضي اللّه عنه، وكذلك كان يرى الملك بصورة دحية كما مرّ في بحث الوحي في المقدمة، قال ثم تبرز صلى اللّه عليه وسلم وأتاني فقال هل معك ماء ؟ قلت يا رسول اللّه معي أداوة (إناء فيه ماء كالجود للمسافر) فيها شيء من نبيذ التمر فاستدعاني فصببت على يده فتوضأ وقال ثمرة طيبة وماء طهور.