وشطر السورة الأول يمضي على إيقاع موسيقي واحد. ويكاد يكون على روي واحد. هو اللام المطلقة الممدودة. وهو إيقاع رخي وقور جليل ; يتمشى مع جلال التكليف، وجدية الأمر، ومع الأهوال المتتابعة التي يعرضها السياق.. هول القول الثقيل الذي أسلفنا، وهول التهديد المروع:(وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا، إن لدينا أنكالا وجحيما، وطعاما ذا غصة وعذابا أليما).. وهول الموقف الذي يتجلى في مشاهد الكون وفي أغوار النفوس:(يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا).. (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا، السماء منفطر به، وكان وعده مفعولا).
فأما الآية الأخيرة الطويلة التي تمثل شطر السورة الثاني ; فقد نزلت بعد عام من قيام الليل حتى ورمت أقدام الرسول ( ﷺ ) وطائفة من الذين معه. والله يعده ويعدهم بهذا القيام لما يعدهم له ! فنزل التخفيف، ومعه التطمين بأنه اختيار الله لهم وفق علمه وحكمته بأعبائهم وتكاليفهم التي قدرها في علمه عليهم.. أما هذه الآية فذات نسق خاص. فهي طويلة وموسيقاها متموجة عريضة، وفيها هدوء واستقرار، وقافية تناسب هذا الاستقرار: وهي الميم وقبلها مد الياء: (غفور رحيم).
والسورة بشطريها تعرض صفحة من تاريخ هذه الدعوة. تبدأ بالنداء العلوي الكريم بالتكليف العظيم. وتصور الإعداد له والتهيئة بقيام الليل، والصلاة، وترتيل القرآن، والذكر الخاشع المتبتل. والاتكال على الله وحده، والصبر على الأذى، والهجر الجميل للمكذبين، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار صاحب الدعوة وصاحب المعركة !..
وتنتهي بلمسة الرفق والرحمة والتخفيف والتيسير. والتوجيه للطاعات والقربات، والتلويح برحمة الله ومغفرته: (إن الله غفور رحيم)..


الصفحة التالية
Icon