وهذه الآية تدل على أنه تعالى أمر بشيئين أحدهما : الذكر، والثاني : التبتل، أما الذكر فاعلم أنه إنما قال :﴿واذكر اسم رَبّكَ﴾ ههنا وقال في آية أخرى :﴿واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [ الأعراف : ٢٠٥ ] لأنه لا بد في أول الأمر من ذكر الاسم باللسان مدة ثم يزول الاسم ويبقى المسمى، فالدرجة الأولى هي المراد بقوله ههنا :﴿واذكر اسم رَبّكَ﴾ والمرتبة الثانية هي المراد بقوله في السورة الأخرى :﴿واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ وإنما تكون مشتغلاً بذكر الرب، إذا كنت في مقام مطالعة ربوبيته، وربوبيته عبارة عن أنواع تربيته لك وإحسانه إليك، فما دمت في هذا المقام تكون مشغول القلب بمطالعة آلائه ونعمائه فلا تكون مستغرق القلب به، وحينئذ يزداد الترقي فتصير مشتغلاً بذكر إلهيته، وإليه الإشارة بقوله :﴿فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ] وفي هذا المقام يكون الإنسان في مقام الهيبة والخشية، لأن الإلهية إشارة إلى القهارية والعزة والعلو والصمدية، ولا يزال العبد يرقى في هذا المقام متردداً في مقامات الجلال والتنزيه والتقديس إلى أن ينتقل منها إلى مقام الهوية الأحدية، التي كلت العبارات عن شرحها، وتقاصرت الإشارات عن الانتهاء إليها، وهناك الانتهاء إلى الواحد الحق، ثم يقف لأنه ليس هناك نظير في الصفات، حتى يحصل الانتقال من صفة إلى صفة، ولا تكون الهوية مركبة حتى ينتقل نظر العقل من جزء إلى جزء، ولا مناسبة لشيء من الأحوال المدركة عن النفس حتى تعرف على سبيل المقايسة، فهي الظاهرة لأنها مبدأ ظهور كل ظاهر، وهي الباطنة لأنها فوق عقول كل المخلوقات، فسبحان من احتجب عن العقول لشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره، وأما قوله تعالى :﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى :


الصفحة التالية
Icon