الجانبين، ثم لا تزال هذه القوى تخدم ما فوقها كما خدمتها الحواس الخمس إلى أن تصير عقلاً مستفاداً، وهو قوة للنفس بها يكون لها حضور المعقولات بالفعل، وهذا العقل هو غاية السلوك الطلبي للإنسان وهو الرئيس المطلق المخدوم للعقل بالفعل، وهو القوة التي تكون للنفس بها اقتدار على استحضار المعقولات - الثانية وهو المخدوم للعقل الهيولاني المشبه بالهيولى الخالية في نفسها عن جميع الصور، وهو قوة من شأنها الاستعداد المحض لدرك المعقولات باستعمال الحواس في تصفح الجزئيات واستقرائها المخدومات كلها للعقل العملي، وهو القوة النظرية المخدوم للوهم المخدوم لما بعده من الحافظة وما قبله من المتخيلة المخدومتين للخيال المخدوم للحس المشترك المخدوم للحواس الظاهرة.
ولما كان كأنه قيل : هبه خلق هكذا فكان ماذا؟ قال شفاء لعيّ هذا السؤال وبياناً لنعمة الإمداد :﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿هديناه﴾ أي بينا له لأجل الابتلاء ﴿السبيل﴾ أي الطريق الواضح الذي لا طريق في الحقيقة غيره، وهو طريق الخير الذي من حاد عنه ضل، وذلك بما أنزل من الكتب وأرسلنا من الرسل ونصبنا من الدلائل في الأنفس والآفاق، وجعلنا له من البصيرة التي يميز بها بين الصادق والكاذب وكلام الخلق وكلام الخالق والحق والباطل وما أشبهه.
ولما كان الإنسان عند البيان قد كان منه قسمان، وكان السياق لبيان تعظيمه بأنه خلاصة الكون والمقصود من الخلق، قال بانياً حالاً من ضميره في " هديناه " مقسماً له مقدماً القسم الذي أتم عليه بالبيان نعمة الهداية بخلق الإيمان، لأن ذلك أنسب بذكر تشريفه للإنسان، بجعله خلاصة الوجود وبقوله :" إن رحمتي سبقت غضبي " في سياق ابتداء الخلق، معبراً باسم الفاعل الخالي من المبالغة، لأنه لا يقدر أحد أن يشكر جميع النعم، فلا يسمى شكوراً إلا بتفضل من ربه عليه :﴿إما شاكراً﴾ أي لإنعامه ربه عليه.


الصفحة التالية
Icon