الوجه الثاني : أنه تعالى ذكرهم كونه قادراً على الابتداء، وظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة، لا جرم قال في حقهم :﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ﴾ وأما التفسير فهو أن قوله :﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ﴾ أي من النطفة، كقوله :﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ﴾ [ السجدة : ٨ ] ﴿فجعلناه فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ وهو الرحم، لأن ما يخلق منه الولد لا بد وأن يثبت في الرحم ويتمكن بخلاف مالا يخلق منه الولد، ثم قال :﴿إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ والمراد كونه في الرحم إلى وقت الولادة، وذلك الوقت معلوم لله تعالى لا لغيره كقوله :﴿إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾ إلى قوله :﴿وَيَعْلَمُ مَا فِى الأرحام﴾ [ لقمان : ٣٤ ] ﴿فَقَدَرْنَا﴾ قرأ نافع وعبدالله بن عامر بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف، أما التشديد فالمعنى إنا قدرنا ذلك تقديراً فنعم المقدرون له نحن، ويتأكد هذا الوجه بقوله تعالى :﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ ولأن إيقاع الخلق على هذا التقدير والتحديد نعمة من المقدر على المخلوق فحسن ذكره في موضع ذكر المنة والنعمة، ومن طعن في هذه القراءة قال : لو صحت هذه القراءة لوجب أن يقال : فقدرنا فنعم المقدرون وأجيب عنه بأن العرب قد تجمع بين اللغتين، قال تعالى :﴿فَمَهّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً﴾ [ الطارق : ١٧ ] وأما القراءة بالتخفيف ففيها وجهان : الأول : أنه من القدرة أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا وأردنا ﴿فَنِعْمَ القادرون﴾ حيث خلقناه في أحسن الصور والهيئات والثاني : أنه يقال : قدرت الشيء بالتخفيف على معنى قدرته، قال : الفراء العرب تقول : قدر عليه الموت، وقدر عليه الموت، وقدر عليه رزقه وقدر بالتخفيف والتشديد، قال تعالى :﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [ الفجر : ١٦ ].