اعلم أن للنفس الناطقة الإنسانية قوتين نظرية وعملية، وكمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ولذلك قال إبراهيم :﴿رَبّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾ [ الشعراء : ٨٣ ] ﴿هَبْ لِي حُكْماً﴾ [ الشعراء : ٨٣ ] إشارة إلى كمال القوة، النظرية ﴿وَأَلْحِقْنِى بالصالحين﴾ إشارة إلى كمال القوة العملية، فههنا بين الله تعالى رداءة حالهم في الأمرين، أما في القوة العملية فنبه على فسادها بقوله :﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً﴾ [ النبأ : ٢٧ ] أي كانوا مقدمين على جميع القبائح والمنكرات، وغير راغبين في شيء من الطاعات والخيرات.
وأما في القوة النظرية فنبه على فسادها بقوله :﴿وَكَذَّبُواْ بآياتنا كِذَّاباً﴾ أي كانوا منكرين بقلوبهم للحق ومصرين على الباطل، وإذا عرفت ما ذكرناه من التفسير ظهر أنه تعالى بين أنهم كانوا قد بلغوا في الرداءة والفساد إلى حيث يستحيل عقلاً وجود ما هو أزيد منه، فلما كانت أفعالهم كذلك كان اللائق بها هو العقوبة العظيمة.
فثبت بهذا صحة ما قدمه في قوله :﴿جَزَاءً وفاقا﴾ [ النبأ : ٢٦ ] فما أعظم لطائف القرآن مع أن الأدوار العظيمة قد استمرت، ولم ينتبه لها أحد، فالحمدلله حمداً يليق بعلو شأنه وبرهانه على ما خص هذا الضعيف بمعرفة هذه الأسرار.
واعلم أن قوله تعالى :﴿وَكَذَّبُواْ بآياتنا كِذَّاباً﴾ يدل على أنهم كذبوا بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد والشرائع والقرآن، وذلك يدل على كمال حال القوة النظرية في الرداءة والفساد والبعد عن سواء السبيل وقوله :﴿كِذَّاباً﴾ أي تكذيباً وفعال من مصادر التفعيل وأنشد الزجاج :
لقد طال ماريثتني عن صحابتي.. وعن حوج قضَّاؤها من شفائنا


الصفحة التالية
Icon