قوله :﴿وَكُلَّ شيْء أحصيناه﴾ أي علمنا كل شيء كما هو علماً لا يزول ولا يتبدل، ونظيره قوله تعالى :﴿أحصاه الله وَنَسُوهُ﴾ [ المجادلة : ٦ ] واعلم أن هذه الآية تدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات، واعلم أن مثل هذه الآية لا تقبل التأويل : وذلك لأنه تعالى ذكر هذا تقريراً لما ادعاه من قوله :﴿جَزَاءً وفاقا﴾ [ النبأ : ٢٦ ] كأنه تعالى يقول : أنا عالم بجميع ما فعلوه، وعالم بجهات تلك الأفعال وأحوالها واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلا قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم، ومعلوم أن هذا القدر إنما يتم لو ثبت كونه تعالى عالماً بالجزئيات، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كان كافراً قطعاً.
المسألة الثالثة :
قوله :﴿أحصيناه كتابا﴾ فيه وجهان : أحدهما : تقديره أحصيناه إحصاء، وإنما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة، لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم، ولهذا قال عليه السلام " قيدوا العلم بالكتابة " فكأنه تعالى قال : وكل شيء أحصيناه إحصاء مساوياً في القوة والثبات والتأكيد للمكتوب، فالمراد من قوله كتاباً تأكيد ذلك الإحصاء والعلم، واعلم أن هذا التأكيد إنما ورد على حسب مايليق بأفهام أهل الظاهر، فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال لأنه واجب لذاته القول الثاني : أن يكون قوله كتاباً حالاً في معنى مكتوباً والمعنى وكل شيء أحصيناه حال كونه مكتوباً في اللوح المحفوظ، كقوله :﴿وَكُلَّ شيْءٍ أحصيناه فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ أو في صحف الحفظة.
ثم قال تعالى :
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (٣٠)


الصفحة التالية
Icon