قوله تعالى :﴿وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام﴾ الآية. قيل : يعني الوديعة وما لا تقوم فيه بيّنة ؛ عن ابن عباس والحسن. وقيل : هو مال اليتيم الذي في أيدي الأوصياء، يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقتطع بعضه وتقوم له في الظاهر حجة. وقال الزجاج : تعملون ما يوجبه ظاهر الأحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق. يقال : أدْلَى الرجل بحجّته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به ؛ تشبيهاً بالذي يرسل الدَّلو في البئر ؛ يقال : أدْلى دَلْوَه : أرسلها. ودَلاَها : أخرجها. وجمع الدَّلو والدِّلاء : أَدْلٍ ودِلاءٌ ودُليٌّ. والمعنى في الآية : لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الإدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة ؛ وهو كقوله :﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق﴾ [البقرة : ٤٢]. وهو من قبيل قولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقيل : المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكامَ وتَرْشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها ؛ فالباء إلزاق مجرّد. قال ابن عطية : وهذا القول يترجّح ؛ لأن الحكَام مِظنَّة الرّشاء إلا من عصم وهو الأقل. وأيضاً فإن اللفظين متناسبان : تدلوا من إرسال الدّلو، والرشوة من الرّشاء ؛ كأنه يمدّ بها ليقضي الحاجة.
قلت : ويقوّى هذا قوله :﴿وَتُدْلُواْ بِهَا﴾ تدلوا في موضع جزم عطفاً على تأكلوا كما ذكرنا. وفي مصحف أُبَيّ " ولا تدلوا" بتكرار حرف النهي، وهذه القراءة تؤيّد جزم " تُدْلُوا" في قراءة الجماعة. وقيل :" تدلوا" في موضع نصب على الظرف، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه " أنْ" مضمرة. والهاء في قوله " بها" ترجع إلى الأموال، وعلى القول الأوّل إلى الحجة ولم يجر لها ذكر ؛ فقوى القول الثاني لذكر الأموال، والله أعلم. في الصحاح :" والرِّشوة معروفة، والرُّشوة بالضم مثله، والجمع رُشىً ورِشىً، وقد رشاه يرشوه. وارتشى : أخذ الرّشوة. واسترشى في حكمه : طلب الرشوة عليه".


الصفحة التالية
Icon