والأول باطل لأن الدنيا دار بلاء وامتحان، لا دار الانتفاع والجزاء، ولما بطل كل ذلك ثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى، فثبت أن الاعتراف بوجود الإله الكريم الذي يقدر على الخلق والتسوية والتعديل يوجب على العاقل أن يقطع بأنه سبحانه يبعث الأموات ويحشرهم، وذلك يمنعهم من الاعتراف بعدم الحشر والنشر، وهذا الاستدلال هو الذي ذكر بعينه في سورة التين حيث قال :﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [ التين : ٤ ] إلى أن قال :﴿فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين﴾ [ التين : ٧ ] وهذه المحاجة تصلح مع العرب الذين كانوا مقرين بالصانع وينكرون الإعادة، وتصلح أيضاً مع من ينفي الإبتداء والإعادة معاً، لأن الخلق المعدل يدل على الصانع وبواسطته يدل على صحة القول بالحشر والنشر، فإن قيل : بناء هذا الاستدلال على أنه تعالى حكيم، ولذلك قال في سورة التين بعد هذا الاستدلال :﴿أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين﴾ [ التين : ٨ ] فكان يجب أن يقول في هذه السورة : ما غرك بربك الحكيم الجواب : أن الكريم يجب أن يكون حكيماً، لأن إيصال النعمة إلى الغير لو لم يكن مبنياً على داعية الحكمة لكان ذلك تبذيراً لا كرماً.
أما إذا كان مبنياً على داعية الحكمة فحينئذ يسمى كرماً، إذا ثبت هذا فنقول : كونه كريماً يدل على وقوع الحشر من وجهين كما قررناه، أما كونه حكيماً فإنه يدل على وقوع الحشر من هذا الوجه الثاني، فكان ذكر الكريم ههنا أولى من ذكر الحكيم، هذا هو تمام الكلام في كيفية النظم، ولنرجع إلى التفسير.