وإنما يتبينَ الحال في هذا بمعرفة ما خلقت له الروح وما هيئت له وما فطرت عليه، وما لا سعادة لها ولا نعيم ولا حياة إلا بإدراكه.
فاعلم أن الله سبحانه خلق كل عضو من الأعضاء لغاية ومنفعة، فكماله ولذته في أن يحصل فيه ما خلق له، فخلقَ العين للإبصار، والأذن للسمع، والأنف للشم، واللسان للنطق، واليد للبطش، والرجل للمشي، والروح لمعرفته ومحبته والابتهاج بقربه والتنعم بذِكره، وجعل هذا كمالها وغايتها، فإذا تعطلت من ذلك كانت أسوأ حالاً من العين والأذن واللسان واليد والرجل التي تعطلت عما خلقت له، وحيل بينها وبينه. بل لا نسبة لألم هذه الروح إلى ألم تلك الأعضاء المعطلة البتة، بل ألمها أشد الألم، وهو من جنس ألمها إذا فقدت أحب الأشياء إليها وأعزه عليها، وحيل بينها وبينه، وشاهدت غيرها قد ظفر بوصله وفاز بقربه ورضاه. والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها، الذي لا تقرّ عينها إلا بقربه والأنس به والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه، فهذا غاية كمالها وأعظم نعيمها وجنّتها العاجلة في الدنيا، فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب الذي كان يحجبها في الدنيا عن رؤية وجهه وسماع كلامه، وفي حديث الرؤية :< فوالله ما أعطاهم شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إلى وجهه >.
ثم قال : وكما جمع سبحانه لأعدائه بين هذين العذابين، وهما ألم الحجاب وألم العذاب، جمع لمُحبيه بين نوعي النعيم : نعيم القرب والنظر، ونعيم الأكل والشرب، والنكاح والتمتع بما في الجنة، في قوله :
﴿ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ﴾ [ الْإِنْسَاْن : ١١ ] الآيات.


الصفحة التالية
Icon