وقولُه تعالى ﴿ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ﴾ استئنافٌ وقعَ جواباً عن استفهامٍ مقدرٍ كأنه قيلَ ممَّ خلقَ فقيلَ : خلقَ من ماءٍ ذِي دفقٍ وهو صبٌّ فيه دفعٌ وسيلانٌ بسرعةٍ والمرادُ بهِ الممتزجُ من الماءينِ في الرحمِ كما ينبىءُ عنه قولُه تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب ﴾ أي صلبِ الرجلِ وترائبِ المرأةِ وهي عظامُ صدرِها قالوا إن النطفةَ تتولدُ من فضلِ الهضمِ الرابعِ وتنفصلُ عن جميعِ الأعضاءِ حتى تستعدَّ لأنْ يتولدَ منها مثلُ تلك الأعضاءِ ومقرُّها عروقٌ ملتفٌ بعضُها بالبعضِ عند البيضتينِ فالدماغُ أعظمُ الأعضاءِ معونةً في توليدِها ولذلك تشبهُه ويورثُ الإفراطُ في الجماعِ الضعفَ فيهِ وله خليفه هو النخاعُ وهو في الصلبِ وشعبٌ كثيرةٌ نازلة إلى الترائبِ وهما أقربُ إلى أوعيةِ المنيِّ فلذلك خُصَّا بالذكرِ وقُرِىءَ الصَّلَبِ بفتحتينِ والصُّلُبِ بضمتينِ وفيه لغةٌ رابعةٌ هي صالبُ.
﴿ أَنَّهُ ﴾ الضميرُ للخالقِ تعالَى فإنَّ قولَه خُلِقَ يدلُّ عليهِ أيْ أنَّ ذلكَ الذي خلقَهُ إبتداءً مما ذكرَ ﴿ على رَجْعِهِ ﴾ أي على إعادتِه بعد موتِه ﴿ لَقَادِرٌ ﴾ لبينُ القدرة ﴿ يَوْمَ تبلى السرائر ﴾ أي يُتعرفُ ويُتصفحُ ما أُسرَّ في القلوبِ من العقائدِ والنياتِ وغيرها وما أُخفي من الأعمالِ ويُميزُ بين ما طابَ منها وما خبُثَ وهو ظرفٌ لرجعِه.
﴿ فَمَا لَهُ ﴾ أي للإنسانِ ﴿ مِن قُوَّةٍ ﴾ في نفسِه يمتنعُ بها ﴿ وَلاَ نَاصِرٍ ﴾ ينتصرُ به ﴿ والسماء ذَاتِ الرجع ﴾ أي المطرِ سميَ رَجْعاً لَما أن العربَ كانوا يزعمونَ أن السحابَ يحملُ الماءَ من بحارِ الأرضِ ثم يرجعُه إلى الأرضِ أو أرادُوا بذلكَ التفاؤلَ ليرجعَ ولذلك سمَّوه أوباً أو لأنَّ الله تعالى يرجعُه حيناً فحيناً.