وأما البحث الثاني : وهو أنه ما الذي يحفظه هذا الحافظ ؟ ففيه وجوه أحدها : أن هؤلاء الحفظة يكتبون عليه أعماله دقيقها وجليلها حتى تخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً وثانيها :﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ يحفظ عملها ورزقها وأجلها، فإذا استوفى الإنسان أجله ورزقه قبضه إلى ربه، وحاصله يرجع إلى وعيد الكفار وتسلية النبي ﷺ كقوله :
﴿فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نعد لهم عداً﴾ [ مريم : ٨٤ ] ثم ينصرفون عن قريب إلى الآخرة فيجازون بما يستحقونه وثالثها : إن كل نفس لما عليها حافظ، يحفظها من المعاطب والمهالك فلا يصيبها إلا ما قدر الله عليها ورابعها : قال الفراء : إن كل نفس لما عليها حافظ يحفظها حتى يسلمها إلى المقابر، وهذا قول الكلبي.
واعلم أنه تعالى لما أقسم على أن لكل نفس حافظاً يراقبها ويعد عليها أعمالها، فحينئذ يحق لكل أحد أن يجتهد ويسعى في تحصيل أهم المهمات، وقد تطابقت الشرائع والعقول على أن أهم المهمات معرفة المبدأ ومعرفة المعاد، واتفقوا على أن معرفة المبدأ مقدمة على معرفة المعاد، فلهذا السبب بدأ الله تعالى بعد ذلك بما يدل على المبدأ.
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
الدفق صب الماء، يقال : دفقت الماء، أي صببته وهو مدفوق، أي مصبوب، ومندفق أي منصب، ولما كان هذا الماء مدفوقاً اختلفوا في أنه لم وصف بأنه دافق على وجوه الأول : قال الزجاج : معناه ذو اندفاق، كما يقال : دراع وفارس ونابل ولابن وتامر، أي درع وفرس ونبل ولبن وتمر، وذكر الزجاج أن هذا مذهب سيبويه الثاني : أنهم يسمون المفعول باسم الفاعل.


الصفحة التالية
Icon